الفصل الأول
دارت بنظرها في وجوه الحاضرين وقد غلف البرود ملامحها ...
أمها بجانبها ، وعمتها إلى يسارها وفي المقابل جلس أهله ...أمه وأختاه ...
ينظرن لها بنظرات ثاقبة ..يتفحصنها من قمة رأسها حتى أخمصيها ..
يطلبن منها أن تقف لتحضر شيئاً حتى يزددن تفحصاً طولا وعرضاً ..
أما هو فيطرق رأسه الصلعاء ويتبادل الحديث مع أخيها ..
ويلتفت (إليها) من حين لآخر يتأملها وهو يصطنع الخجل، يسألها عن أحوالها
فلا ترد
ويضحك لتظهر أسنانه الصفراء ..
تباً لكم جميعاً
تقولها صامتة
وتبقى تدور بناظريها في المكان ...وجهها شاحب ، وعيناها فقدتا بريقهما ..وفقدتا معنى الحياة
تسمعهم يتحدثون عن المهر ، الشبكة ، بل والمؤخر وما الذي سيحدث إن هو – جدلاً- طلقها ...
لكنها لا تبالي .. تشعر أنهم لا يتحدثون عنها ...
لست أنا من تقررون مصيره وحياته وأين وكيف سيعيش ما تبقى له في هذه الحياة ..
لست أنا يا هؤلاء ...
أنا كلي إحساس يتدفق بين جوانحي ... يتناثر في المكان .. يتجذر في اللامكان ... يصنع تاريخاً .. وهوية ...
أنا " سلمى " أولى فتيات دفعتها ...
أنا " سلمى " شاعرة الكلية رقم واحد
أنا " سلمى " التي تحب وتكره تسمع وترى تشعر وتحس
أنا إنسان قبل كل شيء ..
لي حق أن أقرر ، أن أختار ..
كلا ... لست أنا من تدفنونه بأيديكم ...
على الأقل .. لي حق اختيار مكان الدفن .
فكرت في كل هذا ، تنازعتها مشاعرها ..
وهنا ، وقفت بين كل هؤلاء ...
وقالت موجهة كلامها إلى الجميع :
- اتفقتم على المهر ، على الشبكة ، أجمعتم على كل شيء ..
بارك الله فيكم ، أنا أوافقكم على كل التفاصيل ، باستثناء شيء واحد
وازداد صوتها حدة وهي تضيف :
- Change The bride ….
قالتها صارخة ، قالتها بغضب الدنيا كله ..
واندفعت إلى غرفتها ...
كانت تعلم أن أخاها ربما يقتلها ...
ستموت أمها وهي تبكي ..
ستتشمت بها بعض فتيات العائلة ...
ستعذبها الأيام القادمة ... ولكن حتماً
لن تكون أسوأ من استمرار ما قطعته هي ...
تنهدت في ارتياح ..
وضحكت ...
ثم انهمرت في بكاءٍ طويل ..
****************
أيام مضت ...
محبوسة هي بين جدران أربعة ..
نفس السيناريو الذي توقعته ..
أخوها ينهمر عليها ركلاً وضرباً دون رحمة ..
أمها المسكينة تصرخ وتحاول أن تحميها منه ، لكنها لا تقدر ..
يدفعها غير مبالٍ بنواحها فتسقط أرضاً
ورغم جراحاتها تصرخ سلمى :
- أمي ... أمي
وتندفع إلى أمها ، تحتضنها بذراعيها .. و أخوها يبعدها عنها ، قال لها :
- لن تخرجي من المنزل بعد الآن ، لن تذهبي إلى الجامعة ، لم يعد من داعٍ لتعليمك بعدما فعلته ..
لقد فضحت أخاك أمام الناس ، وهذا لن يمر مرور الكرام ...
تصرخ وقد انهار حلمها ، وهوى قلبها ...
وتفكر في صديقاتها ..
في حلمها بالتخرج ، وهي الأولى على دفعتها ...
في تفوقها الذي ستحرم منه ..
وتفكر فيه ...
" أمير " ...
لن تراه بعد اليوم ..
لن تسمع صوته ...
لن تشاهد وجهه الحلو ...
ملامحه الوسيمة/ العفية/ القوية ...
وكيف يتقدم لخطبتها أصلاً ..
وهو ابن تنظيم يعاديه أخوها ..
وكيف يقبل أخوها وقد حبسه بنفسه مرتين بل وساهم في استجوابه وتعذيبه ... كيف يقبل هذا وكيف يُقْدِمُ ذاك ... كيف تتلاقى أيديهما وتختلط أنسابهما و أخوها قد عماه الحقد فصار مستعدا للموت حتى لا يدخل " أمير" إلى البيت ...
أي معضلة وقعت فيها ..
نجني يا رب .. نجني يا الله
قالتها ورمت بحملها بين يدي الواحد القهار ... ولم تكن تعلم ما تخبئه لها الأيام القادمة ...
************
وقف يرمق الفجر الذي ينذر بالقدوم ...
خلف الأفق ... كانت الشمس قد بدأت في صعود خجل
وأشعتها الدافئة تنتشر في صمتِ .. فترفع حرارة الموجودات شيئا فشيئا
البيارة أمامه شامخة ..
وقطرات الندى تتساقط من ورقات أشجار الزيتون والبرتقال التي تلون " البيارة " باللون الأخضر ...
والعصافير الصغيرة تحلق في نشوة وكبرياء وصوتها ينذر الحالمين ببدء يوم جديد .
مثل كل يوم
ها هو يقف في نفس المكان ..
ذات الشرفة ..
يرقب ذات المشهد .، فلا يمل منه
ورغم ما يعتريه من ألم ..
لم يفقد الأمل بعد ..
انه الأمل وحده ما يحركه ..
ما يعطيه الدافع كي يبقى ، وكي يعيش .
هذه البيارة هي كل ما يملك في الحياة ..
الوالد فقده بعد رحلة طويلة مع المرض ..
أما والدته ، فقد أصابها الحزن على زوجها بالقنوط واليأس ، فأصبحت تتحرك كجثة ليس فيها حياة ... وهي التي لم تفق من صدمة موته بعد ..
أما أختاه ، " هبة " و " دعاء " وأخوه الأصغر " خليل "
فهم آخر من تبقى له ... وهم الحمل الأكبر الملقى على عاتقه المثقل أصلاً بالهموم ..
ها هي الجامعة أمامه يتحرك فيها بطيئا .. فهو يعمل في البيارة ويمضي في دراسته حسبما تحركه إيرادات هذه الشجيرات الخضراء ..
وعندما أشرقت أشعة الشمس قوية في وجهه وقد أحس بحرارتها فجأة ، وبينما هو يغمض عينيه في انتشاء ...
تذكرها ...
( سلمى ) ...
ذاك الملاك الرقيق .. المفعم بالإيمان ، المتدثر بالوقار ، المشع ألقاً وحيوية
يكاد يفقدها بسبب تجاذبات لا دخل له أو لها فيها ...
أي ذنب جنته هي
أي ذنب ؟؟
وأي ذنب جناه هو ؟؟
انه يغفر ما حدث له
وينسى إساءة الأخ والجار
ولكن المسيء يا للأسى لا ينسى ..
وبينما هو في لجة من أفكاره ..، وملامحه يبدو عليها القنوط والإحباط
إذ بالظل الأخضر بين الأشجار يزداد كثافة ، يتحرك ...
رجال ملثمون ... تظهر ملامحهم جلية اذ يقتربون
يصنعون حلقة بين أشجار الزيتون
ويعتدل ( أمير ) ...
يتحول إلى إنسان آخر
واليأس يتحول إلى حيوية ليس لها مثيل
يرتدي لثامه الأخضر ..
وينزل للرجال
وبخطى واثقة
يتجه ليكمل الحلقة التي صنعوها بأجسادهم ...
وتبدأ مرحلة جديدة