تُرى هل سيعود أبي وأخي إلينا؟ هل سنلعب معاً مجدداً؟ وهل سنزرع أشجار الزيتون والحوامض كما كنا نفعل سابقاً؟ أسئلة أخذت تتردد في خاطر أحمد، ذلك الطفل الفلسطيني الذي لا يتجاوز الرابعة من عمره، لكنه كان خائفاً من أن يسأل أمه فتنهمر الدموع على وجنتيها كالعادة.
كـان أحمد يقطن في مدينة غزة بفلسطين، وكان يرى الأطفال في حيّه يحملون في أيديهم حجارة، ويسمعهم يهتفون: «لا إله إلا الله... القدس لنا...»، لم يكن يدرك لِمَ كل ذلك، ولكن وببراءة الأطفال كان يقول مثل ما يقولون، ويحمل بين يديه الصغيرتين حجارة يقذفها كما كانوا يفعلون.
وهكذا مرّت ثلاث سنوات على هذه الحالة، وفي أحد الأيام وعندما بلغ الفضول من أحمد الشيء الكثير سأل أمه قائلاً:
ـ أماه! أين أبي؟ أين أخي؟ لماذا كلما سألتكِ تبكين وتلزمين الصمت فلا تجيبين؟ ومَنْ هؤلاء الأشخاص المسلحون الذين يحاربوننا ونحاربهم؟
في تلك اللحظة أدركت الأم أن ابنها الذي أصبح عمره سبع سنوات لم يعد صغيراً، لكنه مثل باقي الأطفال الفلسطينيين لَبِسَ ثياب الرجولة وهو لـمّا يتجاوز العاشرة من عمره.
أجابت الأم بتنهّد شديد وبعبرة تخنقها:
ـ آه يا بني! هؤلاء القوم هم أعداء الله وأعداؤنا، ولقد قتلوا أباك وأخاك كما قتلوا أناساً كثيرين.
قصت الأم لابنها الحكاية كاملة، سقطت دمعتان من عيني أحمد لتعلنا عن وفاة طفل بريء بداخله ومولد رجل همام.
كان أحمد يرى حالتهم المادية المتردية يوماً بعد يوم: لباساً بالياً، مسـكناً مهدّماً لا يقيهم شدة الحر أو برودة الطقس، وكان أكثر ما يَحِزُّ في نفسه هو رؤيته لأمه وهي توهمه بأنها تأكل ليأكل هو ويشبع.
كان الأسى يملأ قلبه، والكره والحقد على إخوان القردة والخنازير قد بلغ ذروته.
وقـف أحـمد حـائراً أمام كل تلك الأحداث؛ فماذا بمقدوره أن يفـعل؟ كل يـوم يـرى طفـلاً يُقتل أمامه، أو امرأة تُضرب بلا رحمة، أو شيخاً يقطّع إرباً إرباً وكأن شيئاً لم يحدث.
أدرك أحمد أن السـاعة قد حانت ليأخذ بثأر أبيه وأخيه وكل بـريء يُقـتل بلا ذنـب. كـانت الفكرة لا تغيب عن باله، فـقرّر أن ينـزل إلى سـاحـة المعركة، ولكن خوفه وقلقه على أمـه وخوفه من أن تكون ردّة فعلها سلبية منعته من أن يسرَّ لها بما قرّر.
كان كل يوم يخرج من الصباح الباكر مع مجموعة الشجعان الذين في مثل عمره إلى الشوارع حيث كان اليهود خلف دباباتهم وبنادقهم خائفين من أطفال لا يملكون سوى الحجارة في أيديهم. لم يكن أحمد يبالي بدويّ المدافع وطلقات الرصاص، فقد كان كل همّه أن يُخرِج المعتدين من أرضه.
وعندما يحين المساء، يرجع إلى بيته، واستمر الحال هكذا لمدة استغرقت ستة أيام، وفي اليوم السابع وبينما أحمد كعادته يرمي أحد الجنود بحجر، أطلق عليه اليهودي الخائف رصاصة غدر استقبلها أحمد بصدر مفتوح وبكل بسالة، اخترقت هذه الرصاصة القاتلة صدره الصغير فخرّ ساقطاً ودماؤه من حوله تشهد على جُبن العدو وخوفه؛ أيقابل حجراً برصاصة؟
ركض أحد الأطفال إلى بيت أحمد ليخبر أمه التي لم تستقبل الخبر إلا بدموع الفرح في عينيها؛ فلقد عرفت منذ أن سألها ابنها عن كل ما هم فيه بأنه راحل لا محالة.
ركضت الأم إلى ابنها، وعندما وصلت إليه كانت الأنفاس الأخيرة تخرج منه، جثت الأم على ركبتيها وحملت ابنها بين ذراعيها وضمّته إلى صدرها لتقبّله القبل الأخيرة.. ويهمس أحمد بصوت تمازج فيه صوت الدمع والفرح قائلاً:
ـ إيــه أمــي! أخبـري عنـي بأنـي لـم أمـت.. ألـف لا.. بـل أنا عِشت وخُلِّدْتُ منذ هذه اللحظة.. أخبري عنا بأنا إن مات طفل حجارة فينا فإن ألف طفل حجارة يولد.. أخبري عني وقولي أين أنـتم يا مسـلمون؟ قومـوا، انهـضوا، أفيـقـوا؛ فـالعـدو منـكم قـد قـرب، أخـبري عنـي وقولـي بأن القدس لنا ولن نتوارى ونتهاون في إعادته.
ثم نطق بالشهادة ومات. أغضمت الأم عيني ابنها، وقالت:
ـ نَمْ بسلام؛ فرسالتك ستصل إلى أُذُن كل مسلم.
وقـفت الأم وشلالات الدمع تنهمر من عينيها لتحمل حجراً لم تقذفه بعد حتى جاءت رصاصة غادرة من الخلف لتُلقي بها جثة هامدة بجانب جثة ابنها.
أُسْدِلَ الستار ليعلن عن نهاية أسرة فلسطينية أخرى.
آآآآآآه!.. وتستمر الحكاية.
كـان أحمد يقطن في مدينة غزة بفلسطين، وكان يرى الأطفال في حيّه يحملون في أيديهم حجارة، ويسمعهم يهتفون: «لا إله إلا الله... القدس لنا...»، لم يكن يدرك لِمَ كل ذلك، ولكن وببراءة الأطفال كان يقول مثل ما يقولون، ويحمل بين يديه الصغيرتين حجارة يقذفها كما كانوا يفعلون.
وهكذا مرّت ثلاث سنوات على هذه الحالة، وفي أحد الأيام وعندما بلغ الفضول من أحمد الشيء الكثير سأل أمه قائلاً:
ـ أماه! أين أبي؟ أين أخي؟ لماذا كلما سألتكِ تبكين وتلزمين الصمت فلا تجيبين؟ ومَنْ هؤلاء الأشخاص المسلحون الذين يحاربوننا ونحاربهم؟
في تلك اللحظة أدركت الأم أن ابنها الذي أصبح عمره سبع سنوات لم يعد صغيراً، لكنه مثل باقي الأطفال الفلسطينيين لَبِسَ ثياب الرجولة وهو لـمّا يتجاوز العاشرة من عمره.
أجابت الأم بتنهّد شديد وبعبرة تخنقها:
ـ آه يا بني! هؤلاء القوم هم أعداء الله وأعداؤنا، ولقد قتلوا أباك وأخاك كما قتلوا أناساً كثيرين.
قصت الأم لابنها الحكاية كاملة، سقطت دمعتان من عيني أحمد لتعلنا عن وفاة طفل بريء بداخله ومولد رجل همام.
كان أحمد يرى حالتهم المادية المتردية يوماً بعد يوم: لباساً بالياً، مسـكناً مهدّماً لا يقيهم شدة الحر أو برودة الطقس، وكان أكثر ما يَحِزُّ في نفسه هو رؤيته لأمه وهي توهمه بأنها تأكل ليأكل هو ويشبع.
كان الأسى يملأ قلبه، والكره والحقد على إخوان القردة والخنازير قد بلغ ذروته.
وقـف أحـمد حـائراً أمام كل تلك الأحداث؛ فماذا بمقدوره أن يفـعل؟ كل يـوم يـرى طفـلاً يُقتل أمامه، أو امرأة تُضرب بلا رحمة، أو شيخاً يقطّع إرباً إرباً وكأن شيئاً لم يحدث.
أدرك أحمد أن السـاعة قد حانت ليأخذ بثأر أبيه وأخيه وكل بـريء يُقـتل بلا ذنـب. كـانت الفكرة لا تغيب عن باله، فـقرّر أن ينـزل إلى سـاحـة المعركة، ولكن خوفه وقلقه على أمـه وخوفه من أن تكون ردّة فعلها سلبية منعته من أن يسرَّ لها بما قرّر.
كان كل يوم يخرج من الصباح الباكر مع مجموعة الشجعان الذين في مثل عمره إلى الشوارع حيث كان اليهود خلف دباباتهم وبنادقهم خائفين من أطفال لا يملكون سوى الحجارة في أيديهم. لم يكن أحمد يبالي بدويّ المدافع وطلقات الرصاص، فقد كان كل همّه أن يُخرِج المعتدين من أرضه.
وعندما يحين المساء، يرجع إلى بيته، واستمر الحال هكذا لمدة استغرقت ستة أيام، وفي اليوم السابع وبينما أحمد كعادته يرمي أحد الجنود بحجر، أطلق عليه اليهودي الخائف رصاصة غدر استقبلها أحمد بصدر مفتوح وبكل بسالة، اخترقت هذه الرصاصة القاتلة صدره الصغير فخرّ ساقطاً ودماؤه من حوله تشهد على جُبن العدو وخوفه؛ أيقابل حجراً برصاصة؟
ركض أحد الأطفال إلى بيت أحمد ليخبر أمه التي لم تستقبل الخبر إلا بدموع الفرح في عينيها؛ فلقد عرفت منذ أن سألها ابنها عن كل ما هم فيه بأنه راحل لا محالة.
ركضت الأم إلى ابنها، وعندما وصلت إليه كانت الأنفاس الأخيرة تخرج منه، جثت الأم على ركبتيها وحملت ابنها بين ذراعيها وضمّته إلى صدرها لتقبّله القبل الأخيرة.. ويهمس أحمد بصوت تمازج فيه صوت الدمع والفرح قائلاً:
ـ إيــه أمــي! أخبـري عنـي بأنـي لـم أمـت.. ألـف لا.. بـل أنا عِشت وخُلِّدْتُ منذ هذه اللحظة.. أخبري عنا بأنا إن مات طفل حجارة فينا فإن ألف طفل حجارة يولد.. أخبري عني وقولي أين أنـتم يا مسـلمون؟ قومـوا، انهـضوا، أفيـقـوا؛ فـالعـدو منـكم قـد قـرب، أخـبري عنـي وقولـي بأن القدس لنا ولن نتوارى ونتهاون في إعادته.
ثم نطق بالشهادة ومات. أغضمت الأم عيني ابنها، وقالت:
ـ نَمْ بسلام؛ فرسالتك ستصل إلى أُذُن كل مسلم.
وقـفت الأم وشلالات الدمع تنهمر من عينيها لتحمل حجراً لم تقذفه بعد حتى جاءت رصاصة غادرة من الخلف لتُلقي بها جثة هامدة بجانب جثة ابنها.
أُسْدِلَ الستار ليعلن عن نهاية أسرة فلسطينية أخرى.
آآآآآآه!.. وتستمر الحكاية.