:xzvc:
هويتنا وولاؤنا المجروح...
مع بداية العام 2008، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة حالة الاستنفار في وضعها الهوياتي، مؤسسةً لما يسمى بعام 2008 كعام للهوية الوطنية. وبناءً على ذلك، تواصلت الندوات والمؤتمرات تُعرِّف الهوية، فيما تداعى المشايخ وغيرهم لوضع أجندة هوياتية وطنية، تعزز من عروبة الدولة التي تآكل غلافها القيمي والتراثي في ظل تعويمها السكاني والثقافي.
هويتنا وولاؤنا المجروح...
مع بداية العام 2008، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة حالة الاستنفار في وضعها الهوياتي، مؤسسةً لما يسمى بعام 2008 كعام للهوية الوطنية. وبناءً على ذلك، تواصلت الندوات والمؤتمرات تُعرِّف الهوية، فيما تداعى المشايخ وغيرهم لوضع أجندة هوياتية وطنية، تعزز من عروبة الدولة التي تآكل غلافها القيمي والتراثي في ظل تعويمها السكاني والثقافي.
وكأننا نعود إلى أصلنا في فكرة عودة الدولة إلى خصوصيتها، إذ برزت مؤشرات لتعريف الهوية على أنها ليست بالبطاقة المحمولة أو بالكندورة والعقال، بقدر ما أنها ولاء المواطن لوطنه، وتمسكه بالدين واللغة العربية.
في حالتنا الفلسطينية التي تختلف عن النموذج الإماراتي، يبدو أننا غارقون ومنقسمون في تحديد وتفسير هويتنا المرتبطة أساساً بمشروعنا النضالي، فنحن نعيش في بحر من الأحزاب السياسية المختلفة، ودروس الألف والياء فضلاً عن أبجديات الولاء والانتماء، تتحدد سلفاً بالارتباط إلى التنظيم الفلاني، قبل أن تتحدد بالانتماء لفلسطين.
واستناداً إلى ذلك، يمكن القول إننا تَعوَّمْنا على الجانب الفصائلي مع التعددية السياسية والحزبية القائمة، فضلاً عن تعددنا الجغرافي، فإشكالية الهوية تنطلق من هذه العلاقة المرتبكة، وكثيراً ما نسمع ذلك بالمصطلحات التالية: 'ابن الداخل والخارج، ولاجئ ومواطن، ابن قطاع غزة وابن الضفة الغربية'، وتجد من يُعرِّف نفسه بأنه ابن الفصيل 'فتح' أو الجبهة الشعبية أو 'حماس'... قبل أن يقول إنه ابن فلسطين.
بداية فكرة التعويم الهوياتي على الجانب الفصائلي، ربما حصلت بشكل مقصود أو غير ذلك، إذ بعد أوسلو والوصول إلى صيغة السلطة الفلسطينية، جرى تحديث في الأيديولوجية الفصائلية، ارتبط مع ظاهرة تفريخات فصائلية جديدة تشكل أذرعاً جديدة إما للفصائل القديمة القائمة، أو انسلاخاً مختلفاً يحمل أفكاراً مختلفة.
وترافق مع ذلك، تهميش لمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، وولاء للسلطة مع ولاء تنظيمي لا يعكس المصلحة الوطنية، وصار الانتماء لفلسطين لاحق على الانتماء الأصغر المتمثل بالتنظيم والكرسي والراتب.. إلخ، ومع هذا التعدد الهوياتي الذي برز، في ضوء جمود العقلية الفلسطينية، صار صعباً تجميع تلك الهويات في هوية واحدة.
أما التعويم الآخر، فقد خُلق خلقاً بعد أحداث الانقلاب 'الحمساوي' الذي جرى منتصف حزيران 2007، إذ انقسمت الهوية والجغرافيا الفلسطينية إلى هوية الضفة الغربية وهوية قطاع غزة، حتى أن هذه الثقافة المسمياتية برزت قبل هذا التعويم، بابن غزة وابن الضفة، مع أن كلاهما ابن فلسطين. ثم إن هذا التعويم تحول إلى حقيقة سياسية مفادها سلطة الأمر الواقع، واحدة تعكس نفسها على القطاع، والأخرى تمارس دورها في الضفة.
ومع هذا التعويم جرى تعويم ثالث، ظهر مع الحصار الإسرائيلي القاتل للشعب الفلسطيني، فتبدلت بعض الاهتمامات الشعبية أو يمكن القول إنها تأجلت لصالح الجوع والفقر، وهذه سياسة إسرائيلية جديدة لها علاقة بابتلاع ثوابتنا عبر اختلاق مشاكل وهموم حياتية ذات إيقاع سريع.
ومع كل هذه التعويمات، ظهرت قضية تدويل الحالة الفلسطينية وإدخالها فيما يسمى بـ'الفوضى الخلاّقة'، فكأنهم يحاولون 'عرقنة' الوضع الفلسطيني، عبر تحفيز الخلايا التنظيمية النائمة فيه أو تشكيل خلايا جديدة، بتشجيع تضادها مروراً إلى تثويرها وتوتيرها. فعلى سبيل المثال نجد أن المشهد العراقي الملغوم، تثار فيه النزعات الطائفية ويُقسَّم على أسس جغرافية إثنية، فيما يُقسَّم المشهد الفلسطيني على أساس الصراع الحزبي المرتبط بطلاق الجغرافيا.
وبطبيعة الحال فإن هذه ليست فوضى خلاّقة، وإنما هي فوضى متراكمة ولا تظهر أي نوع لاحترام الحوار، لأن بيئتنا تقوم على التعددية السياسية القائمة على حُطامٍ مفتوح، ولا تخدم المشروع الوطني الفلسطيني، سوى مشروعها السلطوي أو الحزبي بطبيعة الحال.
كتقييم بيننا وبين الغرب، نلاحظ أن الدول الغربية تخلت عن جزء من الانتماء والولاء القطري عبر تجميع الهويات والتوحد في هوية واحدة، ويبدو صحيحاً أن الكونفدرالية الأوروبية لم تلغ حدود الدولة القطرية، لكن هناك إطار تجميعي اسمه الاتحاد الأوروبي يعكس صيغة اتحاد بين سبعة وعشرين دولة، وهذا يعني أن أوروبا قطعت شوطاً تقدمياً نحو القومية الأوروبية. فكل دولة أوروبية تمارس سيادتها القطرية وترفع علمها وتبني إنسانها، لكن هذا التكتل أُنتج للحفاظ على الهوية والثقافة الأوروبية الغربية، ومنعاً لغزو سياسي، اقتصادي، ثقافي، عسكري، قد يهدد الأمة الأوروبية.
أما على الجانب العربي، فنجد العكس تماماً، أمة منقسمة ضائعة وهمها فقط في الاستهلاك المتنوع، ولا تخشى من الغزو الهوياتي الآخر، وإنما ترحب بهذا الغزو الذي قد يحل محلها إن عاجلاً أم آجلاً.. وأكثر من ذلك أنها أمة تكرس المشروع القطري التجزيئي وتلفظ القومية العربية، مع أن عصرنا بحاجة إلى ذلك وتلاصقنا الجغرافي يُسَّهِل هذه الطريق.
ففي دول الخليج وعلى سبيل المثال، هناك مشكلة قوية قد تطيح بهويتها وتركيبتها المجتمعية، في ظل انعدام في التوازن السكاني الذي يقف لجهة دول آسيا كالهند وباكستان وبنغلادش..إلخ، ولا أحد قادر على فرملة هذه الإشكالية التي تتزايد مع العولمة وانفتاح السوق والسياسات التي تتبعها هذه البلدان في استقطاب العمالة، فضلاً عن قوانين العرض والطلب.
وعلى الجانب القطري، نرى تفسخاً شريراً وطوائف وتيارات في الاتجاه المعاكس، تسعى لإحداث انشطار في الهوية القطرية نفسها عبر التقسيم الطائفي أو التقسيم الحزبي.
وعلى الجانب الفلسطيني خصوصاً، تتضح معالم التعددية الولائية وملامح السلطات المتناقضة التي لا تنسجم مع قيام الدولة، لأنها لا تعكس صيغ الولاء للدولة لتكريس وجود الدولة في المستقبل.
في إطار كل هذا وذاك، ومع التحديات الجديدة التي دخلت إلى عالمنا هذا، كتحدي أزمة الغذاء العالمي وقلة المياه وانعدام الأمن والأمان، وفي ظل التفسخ القيمي والأخلاقي، والتغير الأيديولوجي الفصائلي المتجه نحو المصلحة الخاصة، بعد كل هذا، هل يمكن العودة مرةً أخرى إلى الفصائل كأداة للتجميع والمحافظة على الكينونة الفلسطينية، في الطريق إلى المشروع الوطني الفلسطيني والقومي العربي؟
إذا كانت الفصائل هي الجسر نحو الوطن والوطنية، والضامن لقيام الدولة المستقلة على أساس الولاء والانتماء لفلسطين، فإن عليها أن تخرج عن التقليعات المراهقة وأن تلبس ثوباً وطنياً فضفاضاً يتحمله ويستوعبه الجميع، وإلا فإننا فعلاً مقبلون على مقبرة جماعية تطمس كل ماضينا وحاضرنا.
إذاً، الحقوا مشروعنا الوطني، قبل أن يذوب في تناقضكم، وقدموا نموذجاً تفتخر به الشعوب ويشكل مرحلةً جديدةً للتكاتف والانسجام العربي. وفي علمكم أنا لست ابناً لإحدى فصائلكم، كما أنني لا أقبل أن أكون ابن قطاع غزة دوناً عن الضفة الغربية.. وما بعد الضفة الغربية...أنا ابن فلسطين والأرض العربية... مهما كانت النتائج.
/أبوالوليد /sajerarb