كان يحتضنها بقوة ، يخبئها بين ذراعيه، هاربا بين الدم والرصاص ، وأشلاء الأطفال المبعثرة ، ممتشقا خوذته المعدنية و درعه الواقي .
هو كان يعلم أن الموت يجاوره في كل لحظة، لكنه لم يكن يعلم أنها هي من ستكون شاهدا علي موته ، بعد أن ترجل من سيارة " وكالة رويترز للأنباء " ، حاملا الكاميرا علي كتفه .. لتلتقط الصور الأخيرة لفضل ، والتي باتت دليل إدانة علي استهداف كل ما يحمل شارة " PRESS " أو حرفي T.V. .
فقد كان المشهد الأخير لكاميرا المصور شناعة يرصد دبابة احتلالية في منطقة جحر الديك ، قبل أن ترصده الدبابة ، و يعم السواد بقية المشهد .
درع ممزقة ،لم يتبقي منه سوى حروف صريعة ، كاميرا غارقة بدماء صاحبها ، و جسد مفتت انغرست فيه شظايا قذيفة ، صراخ و بكاء .. لفاجعة لم يستوعبها أحد من زملاء المهنة الذين تناثرت علي ملابسهم دماء المصور شناعة، بعدما بقيت كاميراتهم تبكي بهذيان أمام بقايا جسده .
لم تكن هذه المرة الأولي التي تستهدف بها كاميرا شناعة ، لكنها كانت المرة الأخيرة ، ففي المرة السابقة قدر له أن ينجو بأعجوبة خلال اجتياح لحي الشجاعية قبل عام ونصف ، بعد أن استهدفت الطائرات سيارة صحفية مدرعة كان يستقلها أثناء تغطيته الميدانية للاجتياح ، دون أن تثنيه الإصابة عن قراره بمواصلة عمله كمصور ، فقد خرج فضل شناعة علي شاشات التلفزة بعد أيام قليلة من إصابته وهو علي سرير المشفي قائلا : " سأبقي حاملا الكاميرا إلي أن اسقط في الميدان شهيدا أو تبتر قدماي " .
وبالفعل فقد ظل شناعة الفارس في الميدان ، فلم يترك الكاميرا إلا حين سقط و لفظ أنفاسه الأخيرة ، وسقطت الكاميرا شهيدة ، تقطر بدماء صاحبها .
ثلاثة سنوات مضت علي عمل شناعة كمصور لحساب وكالة رويترز للأنباء ، ثلاثة سنوات بعد أعوامه العشرين أثبت فيها شجاعته ووفاءه للمهنة ، ثلاثة سنوات .. كانت قصة عشق أبدية بين شناعة و الكاميرا ، حتى أنها كانت الشاهد الأخير علي موته ، محتفظة بآخر ما رأته عيناه قبل أن تغمض أجفانه للأبد .
ملامح الصدمة والغضب كانت واضحة علي كل زملاء المهنة ، الذين هتفوا خلال تشييع شهيد الصورة فضل : " اكتب كلمة وارسم صورة، بالروح بالدم حنكمل المسيرة" ، حاملين نعشه بين الورود و الأعلام و الصور
حيث نقل جثمانه الملتف ببقايا سترته الواقية إلي برج الشروق ، ليودعه زملاءه في مكتب رويترز ، بعد أن اتشحت سيارات الصحافة بالسواد ، وتعالت أصوات الصحفيين بالبكاء و النحيب وهم يودعون زميلهم ألي مثواه الأخير في مسقط رأسه خانيونس ، بعد أن رافقوا دوما أحاديثه و ضحكاته و قاسموه الدموع أمام مشاهد الدم و الدمار حاملين نعشه و نعش كاميرته الشهيدة .
حداد عم الوسط الصحفي الذي بقي مذهولا مما حدث ، فقد كان يبدو الأمر واضحا انه اغتيال متعمد للحقيقة التي أبي فضل وزملاءه أن يحجبوها ، حتى لو كان ذلك ثمن حياتهم .
هذا ما أكد عليه المصور محمد الزعنون قائلا : " كان من الممكن أن يكون أيا منا يرقد مكان فضل ، فثمن تلك الرسالة التي نؤديها قد تكون أرواحنا ، لكننا سنواصل كشف الجرائم و المجازر الإسرائيلية و توثيقها بالصور حتى لو بات كل مصور فينا شهيدا " . مشيرا إلي غياب أي مسوغات أو قوانين تحمي الصحفيين ، خاصة الفلسطينيين ، فهو يري أن الصحفي " لا يملك حماية نفسه أو حماية صورته " من استهداف حتمي لهم من قبل آلة البطش الإسرائيلية ، فلم يعد هناك فرق بين حامل المصور حامل الكاميرا ، و المقاوم حامل البندقية .
ويضيف الزعنون الذي رافق جنازة الشهيد شناعة مستذكرا : " كان من الذين يتواجدون دائما في قلب الأحداث و المناطق الخطرة ، لينتزع الحقيقة الغائبة ، فقد كان فضل حريصا علي تصوير كل شئ حوله في الاجتياحات ، حتى الصاروخ الذي أطلق عليه، قبل استشهاده بثواني لتبقي بصماته في المكان ". هكذا ودعه الزملاء و الأصدقاء ، وهكذا ودعته صاحبة الجلالة .
وكانت نقابة الصحفيين قد أكدت في وقت سابق استنكارها الشديد لاستشهاد المصور شناعة ، والتي باتت أنها عملية اغتيال واضحة تطال الصحفيين أثناء قيامهم بواجبهم المهني ، فقد سبق للطائرات و الآليات الحربية الإسرائيلية أن تعمدت إصابة طواقم العمل الصحفي ،كما أدانت كتلة الصحفي جريمة الاغتيال مطالبة جميع المؤسسات الصحفية الدولية بالتدخل لوقف الاعتداءات الإسرائيلية علي الصحفيين و حماية حقوقهم التي أبسطها حقهم في الحياة .
وفي تقرير أصدره المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ، ذكرت الإحصائيات ارتفاع عدد الصحفيين الذين سقطوا منذ اندلاع انتفاضة الأقصى ألي 9 صحفيين ، كان من بينهم ايطالي و مصور بريطاني ، إضافة إلي 170 صحفي مصاب ، مؤكدا علي أن جريمة اغتيال الصحفي شناعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال مساء يوم الأربعاء ، مثلت انتهاكا صارخا للحقوق الحماية الصحفية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية ، معربا عن قلقه إزاء هذه الجرائم خاصة و أن الإشارة التي كانت تحملها سيارة الشهيد واضحة و تدل دلالة كافية علي هويته الصحفية .
كما حمل آليستر ماكدونالدز مدير وكالة رويترز العالمية للأنباء في الأراضي الفلسطينية الجانب الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن استشهاد مصور الوكالة "فضل شناعة"
وأكد ماكدونالدز خلال مؤتمر صحفي على أن المصور شناعة لم يكن في مهمة قتالية بل كان في مهمة صحفية لتغطية الأحداث الأخيرة التي جرت وسط قطاع غزة.
وأوضح ماكدونالدز أن دبابة إسرائيلية أطلقت قذيفتين تجاه الصحفي شناعة ، أثناء وقوفه لتصوير تقدم الدبابات الإسرائيلية شرق قطاع غزة، أدت القذيفة الأولى إلي استشهاد المصور شناعة والقذيفة الثانية لتدمير الجيب الذي كان يستقله ، مشيرا إلي أن جيب شناعة كان واضح بأنه خاص للعمل الصحفي ، وموضوعة عليه الإشارات الصحفية.
وطالب ماكدونالدز الجانب الإسرائيلي وبشكل فوري بالتحقيق في حادث استشهاد الصحفي شناعة ، وإظهار نتائج التحقيق للوكالة ، كما بعث بتعازيه لأهل الشهيد شناعة .
، فهل تكفي الدموع لتفي فضل حقه ؟
رامـــــي