ثابت ثابت، والتألق في الشهادة 8 أيار 2001
في صباح ذلك اليوم من أيام الشتاء، دخلتُ الى مكتبي بهمة ونشاط، واتخذت موقعي الذي اعتدت عليه… كلُّ شيءٍ بدا طبيعياً إلا تلك المكالمة الحادة التي توجستُ منها خيفة، كان محدثي (وهو أحد أقاربي) يتكلم بهدوءٍ مصطنع، حاول أن يوصل لي خبراً سيئاً، لكن بشيء من التروي: "الحمد لله… أصيبَ عمك إصابةً طفيفة في يده من طائرة استهدفته من الجو…". ألم أقل لك يا عماه أن تحافظ علينا من حدة هذه الصاعقة على رؤوسنا، ألم أخاطبك برجاء (كما خاطبك الكثيرون) أن تحافظ على نفسك، فأنت تعلم أنك ممن يخشى الأعداء صمتهم وعملهم المبني على الأسس الثورية السليمة؟
بدأت الأخبار تتوالى، وتحولت الإصابة إلى خطيرة…الناس في الشارع يتحدثون عنك, وأنت الذي وصلت إلى أعلى المراتب الثورية دون أن تحظى بالتغطية لأنك كنت تكره البهرجة الإعلامية، ذهبتُ إلى البيت مسرعاً حتى أبدأ رحلتي المعقدة إلى طولكرم لأطمئن على صحتك. فجأة انقلبت الكلمات التي عرضتها القنوات المختلفة على التلفاز، كانت تخبر أنك أصبت بجروح خطيرة…والآن تحولتْ إلى أنك رحلت عنا…لم أذرف دمعة واحدة، قلتُ أصيب ولم يُسْتَشْهَدْ.
نعم، لم أصدق بل بقيتُ على أمل أن يكون هذا الخبر مبنياً على الإشاعة. صارت الدنيا دوامةُ من توارد الأفكار وصار الناس يتقدمون مني لتعزيتي.
"إنشاء الله يكون الخبر غير صحيح"، قلتُ في نفسي. السيارة التي أخذتني إلى طولكرم كانت مليئةً بمن هم مخطئين (كما أحببت أن أعتبرهم). فكرتُ: "الناس يحبون ترديد الإشاعات". أصرتْ إسرائيل أن تفجعنا بك أيها القائد المناضل، كانت تعتقد أن ثورتنا تقومُ على الأشخاص، لا على عدالة القضية حتى لو اغتيل الشعب كله…
لم يستطع جثمانك المسجى في ثلاجة الموتى أن يقنعني… فابتسامتك استمرت تزين شفتيك، وهي لم تفارقك طوال حياتك، ووداعتك التي أعرفها جيداً لا زالت تخيم على جسدك، رحمك الله يا عماه، فلقد استغرقتَ في استشهادك حتى النخاع، قيل إنهم هاجموك من الخلف…لقد أصروا على استعمال جبنهم في حربهم ضدنا، وأنت صممتَ على الاستشهاد وحدك. تذكرتُ يومَ استقبلت مجموعةً من رجال الشرطة الفلسطينية الذين بعثهم لك من أحبوا أن يحيطوك بالحماية، وبشيء من المزاح أركبْتَهم السيارةَ وهم لا يعرفون إلى أين تأخذهم، وعندما أوصلتهم إلى مقر شرطة المحافظة قلت لهم: "لا أريد أن يشاركني هؤلاء الشباب في الرحيل". لقد كنتَ تعلم أن إسرائيلَ ستقتلهم حتى تقتلك.
كأنك كنت تعلم! فرغبتَ قبل بضعة أيام من استشهادك أن تزور جميع أقاربك… كأنك كنت تعلم…ولسبب لم يعرفه إلا الله رغبتَ في أن تصالح جميع من اختلفتَ معهم أو اختلفوا معك.
الساعةُ الآن تقارب الواحدة ظهراً، وطولكرم تقتلها الفاجعةُ بمصابها الجلل. لقد تركتَها دون أن تستمع إلى توسلاتها… وزوجتك اتهمتكَ بحب فلسطين أكثر منها، ثم مضيت إلى حال سبيلك.
تماماً كما يرحل القادة، كنت تفضل أن تُسْتَشْهَدَ بعد إتمام واجباتك تجاه تلك الفلسطين التي رحل (ويرحل) الآلاف من أجلها. ليتك بقيتَ من أجلنا فنحن لم نعرف أن خفة الروح التي كانت تشع منك تجاه أبناء شعبك وتجاهنا، تخبئُ ورائها غياباً قاسياً سيجعلنا ندفع الثمن آلاماً ودموعاً تنزل على وجوهنا فتحرقها شوقاً ولوعة.
…وسكنت في روح العروبة، مثلَ زهرةِ ياسمين… وأخذت دورك حاضراً في سُكَّرِ الشهداء.. تشربُ قهوتك التي لم تفتقد يوماً تلهفك المسافر فوق رغوتها… وصرتَ مسيرةً يبكي لها الأطفال… أنت ظلالُك احترقتْ وغيرُك لم يزل يقضي هوى الساعات مفتوناً ببعض الانهزام وتقريع الكرامة.
ستظل في كبد السماء وروحِها نِداً لهذا الموت… إنْ سقطتْ دماؤُك، فالضياءُ تشع منها… والعبير يخطُ في التاريخ فكرتَه الجميلة..
رحمنا الله من حر اشتياقنا إليك.
في صباح ذلك اليوم من أيام الشتاء، دخلتُ الى مكتبي بهمة ونشاط، واتخذت موقعي الذي اعتدت عليه… كلُّ شيءٍ بدا طبيعياً إلا تلك المكالمة الحادة التي توجستُ منها خيفة، كان محدثي (وهو أحد أقاربي) يتكلم بهدوءٍ مصطنع، حاول أن يوصل لي خبراً سيئاً، لكن بشيء من التروي: "الحمد لله… أصيبَ عمك إصابةً طفيفة في يده من طائرة استهدفته من الجو…". ألم أقل لك يا عماه أن تحافظ علينا من حدة هذه الصاعقة على رؤوسنا، ألم أخاطبك برجاء (كما خاطبك الكثيرون) أن تحافظ على نفسك، فأنت تعلم أنك ممن يخشى الأعداء صمتهم وعملهم المبني على الأسس الثورية السليمة؟
بدأت الأخبار تتوالى، وتحولت الإصابة إلى خطيرة…الناس في الشارع يتحدثون عنك, وأنت الذي وصلت إلى أعلى المراتب الثورية دون أن تحظى بالتغطية لأنك كنت تكره البهرجة الإعلامية، ذهبتُ إلى البيت مسرعاً حتى أبدأ رحلتي المعقدة إلى طولكرم لأطمئن على صحتك. فجأة انقلبت الكلمات التي عرضتها القنوات المختلفة على التلفاز، كانت تخبر أنك أصبت بجروح خطيرة…والآن تحولتْ إلى أنك رحلت عنا…لم أذرف دمعة واحدة، قلتُ أصيب ولم يُسْتَشْهَدْ.
نعم، لم أصدق بل بقيتُ على أمل أن يكون هذا الخبر مبنياً على الإشاعة. صارت الدنيا دوامةُ من توارد الأفكار وصار الناس يتقدمون مني لتعزيتي.
"إنشاء الله يكون الخبر غير صحيح"، قلتُ في نفسي. السيارة التي أخذتني إلى طولكرم كانت مليئةً بمن هم مخطئين (كما أحببت أن أعتبرهم). فكرتُ: "الناس يحبون ترديد الإشاعات". أصرتْ إسرائيل أن تفجعنا بك أيها القائد المناضل، كانت تعتقد أن ثورتنا تقومُ على الأشخاص، لا على عدالة القضية حتى لو اغتيل الشعب كله…
لم يستطع جثمانك المسجى في ثلاجة الموتى أن يقنعني… فابتسامتك استمرت تزين شفتيك، وهي لم تفارقك طوال حياتك، ووداعتك التي أعرفها جيداً لا زالت تخيم على جسدك، رحمك الله يا عماه، فلقد استغرقتَ في استشهادك حتى النخاع، قيل إنهم هاجموك من الخلف…لقد أصروا على استعمال جبنهم في حربهم ضدنا، وأنت صممتَ على الاستشهاد وحدك. تذكرتُ يومَ استقبلت مجموعةً من رجال الشرطة الفلسطينية الذين بعثهم لك من أحبوا أن يحيطوك بالحماية، وبشيء من المزاح أركبْتَهم السيارةَ وهم لا يعرفون إلى أين تأخذهم، وعندما أوصلتهم إلى مقر شرطة المحافظة قلت لهم: "لا أريد أن يشاركني هؤلاء الشباب في الرحيل". لقد كنتَ تعلم أن إسرائيلَ ستقتلهم حتى تقتلك.
كأنك كنت تعلم! فرغبتَ قبل بضعة أيام من استشهادك أن تزور جميع أقاربك… كأنك كنت تعلم…ولسبب لم يعرفه إلا الله رغبتَ في أن تصالح جميع من اختلفتَ معهم أو اختلفوا معك.
الساعةُ الآن تقارب الواحدة ظهراً، وطولكرم تقتلها الفاجعةُ بمصابها الجلل. لقد تركتَها دون أن تستمع إلى توسلاتها… وزوجتك اتهمتكَ بحب فلسطين أكثر منها، ثم مضيت إلى حال سبيلك.
تماماً كما يرحل القادة، كنت تفضل أن تُسْتَشْهَدَ بعد إتمام واجباتك تجاه تلك الفلسطين التي رحل (ويرحل) الآلاف من أجلها. ليتك بقيتَ من أجلنا فنحن لم نعرف أن خفة الروح التي كانت تشع منك تجاه أبناء شعبك وتجاهنا، تخبئُ ورائها غياباً قاسياً سيجعلنا ندفع الثمن آلاماً ودموعاً تنزل على وجوهنا فتحرقها شوقاً ولوعة.
****
…وسكنت في روح العروبة، مثلَ زهرةِ ياسمين… وأخذت دورك حاضراً في سُكَّرِ الشهداء.. تشربُ قهوتك التي لم تفتقد يوماً تلهفك المسافر فوق رغوتها… وصرتَ مسيرةً يبكي لها الأطفال… أنت ظلالُك احترقتْ وغيرُك لم يزل يقضي هوى الساعات مفتوناً ببعض الانهزام وتقريع الكرامة.
ستظل في كبد السماء وروحِها نِداً لهذا الموت… إنْ سقطتْ دماؤُك، فالضياءُ تشع منها… والعبير يخطُ في التاريخ فكرتَه الجميلة..
رحمنا الله من حر اشتياقنا إليك.
عدل سابقا من قبل في الخميس 16 أغسطس 2007, 7:40 am عدل 1 مرات