(15) استلقت على الكرسي بفتور وهي تشعل اللفافة الرابعة ربما!!! لو أخبرها أحد قبل 10 سنوات بأنها ستدخن لصفعته وهي تضحك في سرها.. ربتت سجارتها بحافة "المنفضة" بخفة فتطاير رذاذه، سعلت قليلاً فهي لم تعتد بعد..
عادت لتنظر إلى النائم على السرير، ابتسمت بتهكم، أصبحت معه كالخفاش، تنام نهاراً ثم تعود في المساء إلى البيت، شهران...شهران كاملان وهي على هذه الحال..
مجت السجارة بعمق هذه المرة فاتحدت زفرتها مع سحابات الدخان، هو من علمها كيف تدخن أول سجارة، قال أنّ التدخين الآن صفة ضرورية للمرأة "الستايل"!!!
قامت من الكرسي ، اقتربت من الفراش، هزته بقوة: - "بو محمد". ……….- - انهض، الساعة الآن السابعة والنصف. - أف، ماذا تريدين؟! - لقد تأخرت، ألن توصلني؟! - وما نفع سيارتي الأخرى التي أعطيتك إياها إذن...غداً سأسافر وعليّ أن أرتاح؟!
وعاد ليغطي نفسه بالملاءة من جديد، أين ذهبت الغيرة، أين ذهبت تلك اللهفة القديمة، لم يدّعي الرجال أشياء ليست فيهم، كم هم كذابون، عندهم فقط كلمات، مجرد كلمات ينثرونها على من يريدون، وفيما بينهم يعرفون حقيقتها جيداً!!!
أين تلك العبارات التي طالما أصمّ أذنيها بها:"مستحيل أن أدعكِ تعودين للبيت لوحدك في هذا الليل، تعرفين كم أحبك...كم أخافُ عليكِ و....!!!"
والتقطت مفاتيح السيارة من على المنضدة، سحبت عباءتها بعد أن رشت نفسها بكمية كبيرة من العطر، لعلها تبعد رائحة الدخان الكريهة!!!
أين السعادة الأبدية التي وعدني بها، أهذا هو الزواج؟؟! أهذا ما كانت ترنو إليه طوال حياتها، إنهُ ليس سيئاً بالطبع، لكنه ليس جميلاً كذلك!!! كانت تتوقع شيئاً آخر، لكنّ الواقع شئ وأحلامنا شئ آخر تماماً..
توقفت أمام الإشارة الحمراء، اعترتها رغبة جامحة للتدخين لكنها تكاد تقترب من البيت..أيّ عطرٍ سيغطي عليها؟!
صدت للسيارة المجاورة لها لا إرادياً وهي تنتظر لحظة الإنطلاق، كان صاحب السيارة فاتحاً نافذته يراقبها بالمقابل، ابتسم في وجهها، فعادت لتنظر إلى المقود، مرت دقيقة أو دقيقتان ربما وهي تتأفف من الإزدحام، التفتت إلى السيارة مرة أخرى، أو بالأصح لصاحبها، يبدو أصغر منها، ربما في بداية العشرين...انتبه لنظراتها لكنها هذه المرة لم تُدر وجهها، وما أن ردت إليه الإبتسامة حتى أضاءت الإشارة بلونها الأخضر وانطلقت وهي تشعر بالندم قليلاً!!!
===============
- ماذا بك تبدين واجمة؟! سألتها سلمى.
هزت "أمل" رأسها بضيق وهي تقضم شطيرتها بآلية: - إنها المشاكل العائلية المعتادة.
رفعت "مريم" رأسها بإهتمام وهي تعبث بالعود في مشروبها الغازي.
- آسفة، لم أقصد أن أتدخل في شؤونك الخاصة. ردت "سلمى".
عادت لتهز رأسها من جديد، تركت شطيرتها دون أن تكمل رُبعها!!! تنهدت وهي تقول: - أخي سيتزوج قريباً.
شعرت "مريم" بالإنقباض، ارتجف العود بيدها وهي تصيغ السمع..
- سيتزوج؟! وهل هذه مشكلة؟! سألت "سلمى" بمرح.
لكن "مريم" لم تمهلها في الإجابة، عاجلتها بسؤالٍ آخر: - من منهم سيت..زوج؟! - خالد..
حينها هوى قلبها، كلا كلا لم يهوي بل تقطعت نياطه، نزفت من الداخل نزفاً عميقاً أماتها، قتل آمالها..اغتال حلمها، أجنحة السعادة تتكسر أمام عينيها، كل ما تراه الآن لا شئ..لا شئ....
حاولت أن توقف اهتزاز يدها حتى لا يلاحظن، وضعتها في حجرها وهي تقاوم نفسها الملتاعة، ترجوها أن تصبر، تصبر قليلاً إلى أن تعود للبيت، وتبكي ما شاء الله لها أن تبكي، امسكي نفسك قليلاً يا مريم..لا تفضحي نفسك!!!
- الأمر أعقد مما تتصورين...لا أدري ماذا أقول!!! (ردت "أمل" ببؤس وهي ترفع يديها في الفراغ.(
صمتت "سلمى" احتراماً لحزن صديقتها، وإن لم تدر لم كل هذا الحزن؟! لم تحب أن تثقل عليها بالأسئلة، فأخذت تعبث بجوالها، أما "مريم" فكانت تغلي من الداخل، تراكمت فيها كل الآلام تلك اللحظة، تدوي من الداخل ولكن بصمت حتى تتقرح...
"ما كان عليكِ أن تتمادي في أحلامك، كل شئ له حدود حتى الأحلام..."
استأذت منهم وهي تتعلل بالدخول إلى الحمام، سارت دون اتزان، دون هدى، لم تعد تتحمل أكثر، وضعت دفتر محاضرتها كيفما كان ودخلت الحمام..أغلقت الباب خلفها، تهاوت على الأرض...دفنت رأسها في حجرها وصوت أنينها المتقطع يرتفع شيئاً فشيئاً..
===============
كان واضعاً ذراعيه أسفل يافوخه، يتأمل المروحة وهي تدور في منتصف السقف، لم يذهب إلى العمل اليوم بل لم يعد يخرج من غرفته كثيراً هذه الأيام، يتحاشى الاصطدام بأخيه، يخشى أن يثيره وينفذ ما قاله..هو ليس نذلاً، يعلم بأنَّ أخاه يحبها منذُ أن كانا صغاراً، وهو لا يكنُّ لها أية مشاعر، مجرد أخوة لا أكثر أو أقل، لكنهُ الغضب لعنة الله عليه هو من يفقده أعصابه، الغضب أم لأنهُ تعود دوماً أن يأمر فيطاع ويأمر ثمّ يُطاع أيضاً!!!
هم عودوه هكذا..أليس ابنهم البكر؟!! قام من مكانه، وتوجه إلى المكتب المفتوح على غرفته، كانت الأوراق مبعثرة بفوضى، أخذ يعيد ترتيبها بملل، ماذا أفعل الآن، يغيظني بعناده الأرعن..يريد أن يكسر كلمتي، لقد التحق بشركة أخرى ليعمل بها وترك شركة والده..ترك حلاله وذهب لينّمي حلال غيره!! ولم لأنهُ لا يرغب أن يعمل تحت إمرتي كما يقول؟!!!
"شبابُ اليوم مجانين، يرددون شعار العصامية وابن نفسك من الصفر..والدنيا كفاح ومشوار المليون يبدأ بخطوة، يا لهذه الترهات، عبارات زائفة كأحلامهم البلهاء!!!" هكذا خاطب "خالد" نفسه وهو يبتسم بتهكم وضيق..
"لم أنت غاضب هاا؟! أكلُّ هذا من أجل "راشد"؟! لم يكن يوماً نداً لك يستحق أن تفكر فيه.. اعترف وقل أنها هي السبب، نبذها لك تلك الليلة، لم تكن تعبأ بك كما تظن، وكيف تعبأ بك وأنت لم تقصر فيها لحظة؟!! والأسوأ أنك لم تعد تراها وليس لديك سبيلٌ إلى ذلك..
أهذه هي النهاية فعلاً، نهاية هذا الح...ماذا تقول؟! باتت زلات لسانك كثيرة هذه الأيام!!! أين أنت وأين الحب؟!! أنت لا تحب إلا نفسك، وفي صدرك هذا قلبٌ واحد لا تقدر أن تجزأه إلى نصفين..
إذن ماذا أسمي هذا كله، ماذا أسمي هذا الشعور الذي يجتاح جوانحي، شوق، وله، إعجاب، إنجذاب، ماذا أختار؟!!
لا يهم..لا يهم..المهم أنني لن أقف هكذا مكتوف اليدين..ليست هي من تديرُ عقلي هكذا وتذهب..كل ما أحتاجه هو الصبر، الصبرُ فقط، ولكل باب مفتاح..أليس هذا ما قاله "فيصل"!!! لن أدعكِ تفلتين من يدي هكذا، إنها مسألة وقت فقط!!!
و اتصل ل"فيصل" واتفق على أن يلتقيه بعد قليل في شقته، لعلهُ جو الكآبة المحيطة به....
================
صداع رهيب يعصفُ برأسها، دثرت نفسها وهي تتقلب على فراشها يمنةً ويسرى، دفنت وجهها في وسادتها المبللة، ضغطت عليها بقوة لعلها توقف ذلك العرق المجنون الذي ينبضُ في جبهتها ، سيتزوج.. سيتزوج...قالت أنهُ سيتزوج، ممن يا ترى ؟! لماذا الآن وبعد أن تعلقتُ به، لم يطلب مني ذلك أعرف، ولم يوهمني بشئ ولكن كل ما حدث كان رغماً عني...
انتشلت نفسها بصعوبة وحرارة تلفحها، توجهت لدرج خزانتها وهي تستعين بذلك الضوء الخافت الذي تبعثه "الأباجورة". - ماذا تفعلين؟!
جفلت في مكانها، كانت "ليلى" ويبدو أنها لم تنم أيضاً في هذه الليلة الليلاء!!! - أبحث عن مسكّن للألم، رأسي سينفجر.
عدلت "ليلى" من جلستها، مدت يدها لحقيبتها وناولتها حبتان، ازدرتهما هذه الأخيرة دون أن تستعين حتى بكوبِ ماء. - والآن اخبريني ماذا بك.
جلست "مريم" على حافة الفراش وهي تمررُ باطن كفها على جبينها. - قلتُ لكِ رأسي يؤلمني. - أتخالينني لم أسمع شهقاتكِ التي لم تتوقف دقيقة...أكل هذا بسبب صداع؟!
رفعت رأسها بتوتر وردت: - نعم. - أنا لا أصدقك... - لا يهمني إن صدقتِ أم لا. (ردت بعصبية وهي تعود لتستلقي على فراشها من جديد.( - أنتِ تخبئين عني شيئاً، أعرفكِ تماماً..
توقفت وهي تثني وسادتها، وردت ببرود: - أأنا من لديها شئ تخبئه أم أنتِ؟! - ماذا ت..تعنين؟! (سألت بخوف وحمدت ربها أن الضوء كان خافتاً ولا يكاد يبين ملامح وجهها.( - تغيرتي كثيراً..طريقة كلامك، شرودك الذي لا ينتهي، لم تعودي تهتمين بنفسك كالسابق، أيام تذهبين للعمل وأيام لا وكأن العمل لم يعد من أولوياتك..أيمكن أن تفسري لي كل هذا البرود والاستهتار؟! - لا شئ...لم يتغير فيّ شئ..هذه أنا ليلى القديمة بشحمها ولحمها. "أي كذبةٍ عمياء أُلقيها". - أنا لا أصدقك. أعادت عليها جملتها السابقة: - لا يهمني إن صدقتِ أم لا.
لم تعلق، عاد إليها الصداع بقوة من جديد..لم تأتِ الحبوب بمفعولها بعد، ضغطت رأسها بالوسادة. - لا تذهبي غداً للجامعة ما دمتِ متعبة. (أردفت وهي تطالع أختها بحنان في هذه الظلمة.( - غداً الخميس..أصبحتِ تنسين كثيراً أيضاً.
عضت "ليلى" على نواجذها، صمتت و هي تحاول أن تنام هي الأخرى....
============
أشرق الصباح حزيناً، هناك عيون جافاها النوم وأرقها السهاد..قرّح جفونها وأحال أحلامها إلى كوابيس..
استيقظت "مريم" بتعب، لقت أختها نائمة، خرجت بهدوء وهي تدلف إلى المطبخ، أعدت لنفسها كوب شاي بالحليب، كان طعمهُ مراً، أضافت له مزيداً من السكر لكن دون فائدة!!
رأت أخاها الصغير جالساً في الصالة، يشاهد رسومها المفضلة "Tom & Jerry"، جلست بجانبه، حياها بإبتسامة، ردتها له بأجمل منها رغم كل ما يعتمل بداخلها..
كل المشاهد كانت مضحكة، بل تُجبرك على أن تقهقه، لكن هنا..في هذا الجوف غصّة، تمنعها من الضحك، اكتفت بالإبتسام فقط..
"-مريوووم". - نعم. - سنذهب إلى المهرجان اليوم صح؟! - أيُّ مهرجان؟ - المهرجان الذي سيقام بالقرب من مدينة الملاهي الجديدة.
تذكرت أنها رأت إعلاناً حول مهرجان أو شئ من هذا القبيل في الشارع. - أنا لن أذهب، قل لوالدي أن يأخذك"…….ومن له خاطر كي يستمتع بشئ". - كلا، كلا إذا لم تذهبي معي لن يأخذني والدي، سيتعلل بالعمل. - سأطلب من "ليلى" أن تذهب معك. - لا أريدها، دائماً تصرخ عليّ وتضربني. - أنا مشغولة، عليّ بحوث لا بد أن أنجزها، ليس لديّ وقت للتفاهات. ……………….- - ماذا..ستعود للبكاء كالفتيات!! صاحت فيه بغضب، لم يعد بها قدرة على أن تساير أحد. ها قد هطلت دموعه دون إنذار، لم تعبأ به، قامت من جلستها، إلى متى سيظل هكذا..ما أن نرفض لهُ طلباً حتى يبكي لنستسلم له!!
ارتفع صوت ذلك البكّاء، صعدت السلم سّلمة سلمة، توقفت عند باب غرفتها، أمسكت الإكرة لكنها لم تلبث أن أفلتتها، نزلت من جديد، ليس معنى أن تكون غاضبة منه أن تُسقط غضبها على هذا المسكين..لا يجدر أن ننشر تعاستنا على الآخرين، يكفي ما نحنُ فيه، لعلنا حين نرى فرحتهم نفرح وننسى أحزاننا..
رآها عائدة من حيثُ أتت، توقف عن البكاء وابتسم لكأنهُ علم أنها ستعود، حاول أن يخفي ابتسامته ويتظاهر بالعبوس لكنهُ أمسك ما أن رآها تبتسم بحنان في وجهه. - سأخبر والدي بأن يأخذنا عصر هذا اليوم. ………………- - هيا كف عن البكاء. ……………….- - كفّ عن البكاء وإلا غيرتُ رأيي. - كلا كلا، أنا أصلاً لم أكن أبكي. (قالها بأنفة وشموخ!!( - اممم، هذا واضح فأنت بطل.. "ولكن من ورق!!".
=================
كان الجو بديعاً، ربما ليتيح للزائرين يوماً صافياً جميلاً، أمسكت "مريم" بيد "أحمد" و"ليلى" بجانبهم. - انتبهن لأنفسكن، وأنتِ يا "مريم" انتبهي لأخيكِ جيداً. خاطبهم الأب. - لا تقلق يا أبي. ردت "مريم". - وأنت يا "أحمد" لا تزعج أختاك، أسمعت؟ هزّ "أحمد" رأسه بأدب إيجاباً. - طيب، سأذهب حيث تقف سيارات الأجرة، إذا انتهيتم اتصلوا بي، سأعود بين كل حين. ودعهم الأب وما أن ابتعد عنهم بسيارته حتى أفلت "أحمد" يد أخته وأخذ يركض كالملهوف وقد أسرته الألعاب الضخمة و الغريبة الشكل، ضحكت الفتاتان بخفة وهنّ يتابعنه بأعينهن.
أقتلعت "ليلى" عذق مشموم في طريقها وأخذت تشمه بأريحية، جلستا على كرسي بصمت وشرود، تتأملان المارة وهم كأفواج نمل من كثرة عددهم، عاد "أحمد" الصغير وهو يصيح بإنفعال: "- مريووم" تعالي..تعالي سنلعب في الأخطبوط. - أيُّ أخطبوط؟ - ذاك.
وأشار إلى لعبة كبيرة خضراء على هيئة أخطبوط يحلق في السماء بأذرعه التي تنتهي بأكواب يركبها الجميع. - أتلعبين معنا يا "ليلى"؟ سألتها. ابتسمت هذه الأخيرة بتهكم: - في هذا السن وألعب، أتريدين أن يضحك عليّ الناس!! - ما هذا الكلام، لم أسمع أنهم وضعوا سناً محدداً للعب؟! - اذهبي والعبي، سأبقى هنا، أعجبني المكان.
لم تلّح عليها أكثر، كان "أحمد" يجرها وقد غلبهُ الحماس، انتقلت لها عدوى الحماس لكن ما أن وقفوا أمام اللعبة، وبان شكلها وحجمها الحقيقي حتى شعرت "مريم" بالخوف..الأشياء من بعيد تبدو أفضل مما لو كانت قريبة!!!
- تبدو خطرة، سنلعب لعبةً أخرى. - ماذا؟!! أريدُ أن ألعب فيها. - انظر لتلك المناطيد، تبدو أحلى. - كلا كلا، إنها للأطفال.
"وأنت من أي جنسٍ إذاً!!!"
أخذ يلحُّ عليها إلى أن رضخت، جلست بجانبه والخوف يشلُّ حواسها، أمسكت بحاجز الأمان.... امتلأت اللعبة سريعاً، تحركت ببطء في البداية وما لبثت أن انطلق الأخطبوط بجموح وهو يمدُّ أذرعه المجنونة مثله في كل مكان!!! أغمضت "مريم" عينيها بقوة وهي مطبقة فمها، مانعة نفسها من أن تصرخ، كل شئ مظلم..لا تشعر إلا بنفسها وهي تطير في السماء وتهوي في الأرض بقوة في دوائر لا نهاية لها، وأحمد بجانبها يصرخ ولكن من شدة الإثارة..تلت في سرها كل السور التي حفظتها منذُ أن كانت طفلة...ألن تتوقف هذه اللعبة أبداً!!!
وكأن الله استجاب لدعواتها فتوقفت، لكنّ رأسها لم يتوقف عن الدوران!!! - "مريووم" قومي، لقد ذهب الجميع..
ابتسمت له ببله دون أن تعي ما يقول، كانت الرغبة بالتقيؤ هي التي تسيطر عليها تلك اللحظة.. - هيا، قومي سنلعب لعبةً أخرى. …………- - ما رأيك أن نلعب في السفينة تلك؟!
التفتت إلى هناك، وكان يكفي أن تسمع أصوات الصراخ المنبعثة منها لتدرك أنها تفوق 10 أخطبوطات من تلك التي ركبتها منذُ قليل!!
أنهضت نفسها بثاقل، تحاول ألا يختل توازنها، أمسكت نفسها كي لا تصفعه. - تريد أن تلعب لعبة أخرى؟؟ هيهات..أنا لن ألعب معك. - سألعب في السفينة..سألعب. - إذن اذهب وألعب فيها لوحدك.
وسارت عنه دون أن تترك له مجال، أما هو فلم ييأس وتوجه إلى حيثُ يريد، التفتت "مريم" خلفها لكنه كان قد ذهب، أكملت سيرها إلى حيثُ تجلس أختها بهدوء تراقب الأطفال وهم يلعبون، تدحرجت كرة أسفل حذاءها، تقدم منها طفل بخجل وتردد وهي يشير إلى كرته، ابتسمت له بلطف، احنت جذعها وناولتهُ كرته..أخذها منها شاكراً وسار إلى البعيد..تلاشت ابتسامتها..أسيكون لي طفل يوماً ما..يناديني "ماما "، أسأحوز هذا اللقب قبل أن أختم سير حياتي أم أنهُ سراب آخر من سرابات "أبو محمد"!!! لا أدري إن كان وصل إلى قطر أم لا، سأتصل به في المساء.. انتبهت لحركة "مريم" بجانبها، حركت عذق المشموم بخفة أمام أنفها الأقن: - أين "أحمد"؟ - لقد تركته يلعب. - لوحده؟!! - وماذا تريدين مني يا آنسة؟! أن أركب معه في كل لعبة..
"آنسة..يا ليتني أعودُ آنسة، أدفعُ عمري كله لأسترجع هذا اللقب ".
- الدنيا ليست أمان كالسابق، كل يوم نسمع عن اختطاف طفل والعياذ بالله. - إنهُ يلعب في الجوار، كما أنه يعرف مقرنا وأرقام هواتفنا. عللت دون اقتناع وقد بدا الخوف يغزو قلبها لكنها حاولت أن تطرده.
في الجانب الآخر، كان "فيصل" مع "خالد" يتمشيان، لمحهُ هذا الأخير واقفاً ينتظر دوره ليقطع تذكرة ركوب، ناداه وهو يشكر "فيصل" في داخله لأنه سحبه إلى هنا بالرغم من اعتراضه في البداية.
"- أحمددددد". التفت الصغير وقد اتضحت لهُ هوية المنادي، فاقترب منه مطمئناً: - كيف حالك يا صغير؟ - بخير. (ردّ بخجل.( ودّ أن يسأله أسئلةً كثيرة لكن وجود "فيصل" منعه. - أتلعب هنا وحدك؟! - أجل. (ردّ بخجلٍ أكبر). شعر "خالد" بالإحباط لكنهُ أردف: - أتريد أن تأتي معنا، سنلعبك في ألعاب كثيرة.
وبدون تردد سار معهما، مرحوا كثيراً واستمتع "خالد" بصحبته بالرغم من شعوره بالإحباط، ربما لن تُتاح له أن يراها هذه المرة..
مرت ساعة وهم هكذا وقد بدأ الغروب بالبزوغ وتوارت الشمس خلف الأفق.. في البعيد...اشرأبت عنقهما لكل طفل يلوح أمامهما..بدأ خوفها يتصاعد: - لا بد أنه في يلعب في لعبةٍ ما..إنهُ لا يسأم. (أخذت تبرر). ………..- - سأذهب لأبحث عنه.
ونهضت بقلق، عادت إلى آخر موضع تركتهُ فيه لكنها لم تجده، ذهبت بالقرب من السفينة لكن أفواج الناس تمنعها من الرؤية، كل ما تراه رؤوس كثيرة..أين تجده في هذه الزحمة؟!
عادت لليلى، سألتها بلهفة: - هل وجدته؟
هزت كتفيها بيأس وهي تكادُ تبكي هلعاً: - لم أره..لم أره.
أمسكتها من يدها، وهما تسيران دون هدى لتبحثان عنه، كانت "مريم" ترتجف..قدماها لا تقويان على حملها..ماذا لو حدث لهُ شئ..هي السبب..هي من تركته...لن تسامح نفسها أبداً.
فتشتا في كل مكان، أو بالأحرى "ليلى" هي من كانت تفتش، كانت "مريم" تتهالك على أي شئ فلقد أخذ منها الخوف كلَّ مأخذ وشلّ أطرافها الممزقة من التعب.
أما تراه الآن حقيقة أم خيال رسمه لها عقلها الباطن؟!! لمست كتف أختها دون أن تحول عينيها، كان ماسكاً يد أخيها هو وشخص آخر..يأرجحانه في الهواء وهو يضحك بحبور، بدا شفافاً تلك اللحظة وقد خلع رداء القسوة الذي يغلف نفسه به دائماً..يتغير الإنسان كثيراً حين يتصرف بعفوية..
- ليلى..وجدته "وجدتُ قلبي"، وجدتُ أحمد..
لكن الأخيرة كان ذهنها منصرفاً إلى شئٍ آخر، إلى شخص تعرفه تماماً، تعرفه ولم تتوقع في يوم من الأيام أن تراه..وأين؟! هنا؟؟
وابتعدت عنها دون أن تسمع ردها، تتابع طيف ذلك الشخص الذي يجول بمفرده، أتُراه لازال يذكرها؟؟!
سارت "مريم" ببطء، توارت خلف عمود إنارة فبان نصفها الأيسر فقط..منذُ متى لم تره..مضى وقتٌ طويل أليس كذلك؟! ألا ترون أنهُ نحل قليلاً..
كانوا قد اقتربوا، أرادت أن تنادي أخاها، لكنها تعرف أنّ حنجرتها ستخونها حتماً، تريدُ أن تملأ عينيها من صورته..فربما غداً لن تراه..سيصبح لأخرى..سيتزوج وستُعلن الحداد على قلبها للأبد!!
لمحها "أحمد"، حاول أن يسحب يديه منهما لكن هيهات: "- خالد".."فيصل" دعوني، أختي تنتظرني. - أين؟؟ (سأل "خالد" بلهفة وقد ترك يدهُ الصغيرة).
لم يُجب وسار إلى حيثُ تقف، رفع رأسه، كانت مختبئة خلف العمود، تلاقت عيناهما، أطيافُ الحزن قد تجمعت فيها وبدا لونها الأبيض شاحباً، طأطأت رأسها تتحاشى عينيه، يكفيها كل العذاب الذي لاقتهُ منه..
شدّ أحمد طرف عباءتها بمرح فاهتزّت خواطرها: "- مريووم" يا ليتكِ كنتِ معنا..لقد استمعتُ كثيراً. ………..- "- خلّوود" ركب معي في كل الألعاب، إنهُ أفضل منك!! ليس مثلكِ خوّاف.. …………………-
رفعت رأسها إليه من جديد، لازال واقفاً ينظرُ لها بتردد، حوّلت وجهها إلى أخيها، لم تعاتبه، لم تصرخ عليه كالعادة لأنها ببساطة كانت تشعر بالضياع..تشعر بالحزن..بالألم..بالجرح الذي سببهُ لها ذلك البعيد القريب، أمسكت يد أخيها لتعود إلى حيثُ أتت، لكن الأخير أفلتها وهو يصيح بإنفعال: - سأودعهم، سأقولُ لهم "مع السلامة" على الأقل..
"آآآه، لحظة الوداع حانت، ليس بي قدرة على التحمل أكثر، رحماك يا رب..يا قلب ابعث لهُ سلامي".
تركها "أحمد"، ذهب عندهم، أما هي فلفت وجهها بعيداً بعيداً كي لا يلاحظ تلك الدموع التي بدأت تحرقُ مقلتيها وهي تصارع للخروج بعناد..
- كيف حالك؟!
لفت وجهها سريعاً لمصدر الصوت، كان قريباً، قريباً جداً وبعيد في نفس الوقت، جفلت وابتعدت لا إرادياً قليلاً إلى الوراء.
- كيف حالك؟ (كرر سؤاله وهو يحتوي وجهها بعينيه بحنان).
"أتسألني عن حالي؟! ماذا تتوقع وأنت تقتلني بدل المرة مليون!! أرجوك ابتعد، اخرج من حياتي، فهذا أفضل لي و....لك!!"
لم ترد، بل أطرقت وهي تنظر للأرض بعينين لا تريان. - مريم.... نطق اسمها ولأول مرة أمامها، رنّ اسمها في أذنيها بوقعٍ غريب لم تسمع مثله من قبل!! ……………- - مريم، أنا أكلمك ، لم لا ترفعين رأسك؟ ……………- لم تستجب، لا تريد لوجهها أن يفضح مشاعرها تجاهه، أن تذل نفسها لإنسان لا يستحق هو آخر ما تريدُ فعله. - لقد اشتقت لرؤيتك ورؤية وجهك!! (قالها بحرارة.( !!!!!!!!!!!!!!!- تجرأت ورفعت رأسها وقد عمّ الاحمرار جميع قسمات وجهها، رمشت عينيها بخجل، لكنها لم تقوى على النظر إليه هكذا..مباشرةً، غضت طرفها وأطرقت رأسها من جديد، رفعت رأسها فجأة وكأنها انتبهت لنفسها، كيف تسمح له بأن يكلمها هكذا دون حدود؟! ثم أليس سيتزوج قريبا!! لم هذه التمثيلية إذن؟!
دائماً تخونه مشاعره أمامها، كلما حاول أن يتمالك نفسه، كان شيئاً أقوى منه يشده، يجعلهُ ضعيفاً أمامها..يدفعه لأن يعترف بأشياء لا يريدُ الاعتراف بها حتى لنفسه!!! - مريم أنا.. - أنت ماذا؟! (صاحت فيه بإنفعال.( - أنا...أنتِ أريد أن أقول..أقصد لاشئ..لاشئ!! هزّ رأسه نافياً وكأنهُ غير رأيه في اللحظة الأخيرة.
"تريد أن تقول أنك ستتزوج، اطمأن فأنا أعرف، أصبح خبراً قديماً..". كانت الغصة أقوى منها، أقوى من أن تتمالك أعصابها المرهفة..أتعرفون إلى أي مدى يقودنا اليأس؟!
- لماذا تفعل بي هكذا؟! (سألته بتباكٍ). ……………..- - حرام عليك حرام.. - مريم أنا... - يكفي، أنا لا أريد أن أسمع شيئاً منك، أرجوك فقط ابتعد عن وجهي لا أريدُ أن أراك.
وأردفت وهي تريد أن تؤلمه، أن تؤذيه كما آذاها في قلبها..في الصميم: - أنت شخص كريه، غشاش لا تُطاق..أنت لا شئ بالنسبة لي، لا شئ أتفهم، لذا أرجوك لا تتعب نفسك وتحادثني للأنني لن أهتم لشخصك أبداً.
دارت بغضب، الكلام معه لن يُجدي أبداً، كيف لمثله أن يشعر، وكيف لها أن تُحب شخصاً مثله!! أما هو فقد جرحتهُ كلماتها، الكلمات أقسى من الفعل أحياناً، اسمعت أيها الأحمق ماذا قالت وأنت كنت وبكل غباء ستعترفُ لها بحبك الأرعن مثلك!!!
أعماهُ الغضب، لا بل كلماتها هي من أعمته، أمسك ذراعها من الخلف بعنف وأدارها أمامه:
- ماذا تفعل، أترك يدي...هل أنت مجنون؟!
لازال قابضاً عليها بقوة وآلاف الشياطين تتراقص أمام عينيه...
- لا تمسكني هكذا أمام الناس، إنهم ينظرون إلينا. (صاحت فيه وهي تحاول جاهدة أن تسحب يدها من قبضته.(
صرخ فيها بوحشية: - أتريدين أن أمسك بكِ في مكان آخر، بعيداً عنهم؟!!!! =============== و لا زالت الضلالات مستمرة.... يا تُرى من الشخص الذي رأته ليلى؟!! وماذا عن مريم وخالد..أين سينتهي بهما المطاف... أحداث كثيرة تنتظر أبطالنا في المهرجان.. أسينتهي ذلك اليوم حقاً على خير؟!
(16) اقتربت منه، كان مُديراً ظهره لها، ينظر دون هدف، أجاء هنا لوحده...أم؟!!
- س..سلمان. لم يسمع، رفعت من طبقة صوتها قليلاً بتردد. - سلمااان.
والتف إلى صاحبة الصوت، فتح عينيه بدهشة ممزوجة بالفرح: - من؟! ليلى..معقول!!
وابتسمت، بل ضحكت بحبور في وجهه، تقدم منها أكثر حتى بات يواجهها تماماً: - كيف حالكم، وكيف حال الوالد ومحمد؟! - بخير، كلنا بخير والحمد لله!!!! - وأنتِ ما هي أخبارك؟ - ب..بخير، لا زلنا أحياء في هذه الدنيا..
وحل الصمت، كلاهما يفكر بجملة..بسؤال..بأي شئ!!!
- أأتيت هنا للسياحة؟! - كلا، أنا أعمل هنا منذُ مدة، عقدي سينتهي بعد شهر وسأعود حينها للبلاد. …………….- - أين تقطنون،أ..ربما أزور "محمد"، اشتقت له كثيراً. قالها وهو ينظر لها بحنو، بحسرة من أضاع شيئاً..شيئاً كان يوماً نفيساً بالنسبة إليه.
"لا تنظر إليّ هكذا، لم أعد أنفعُ بشئ، لم أعد ليلى، لم أعد أعرف حتى نفسي!!!".
- نسكنُ في "......."، سأعطيك رقم هاتف المنزل إذا أضعت يوماً..
سجل رقم الهاتف، أخذت ترمقه، كم تغير كثيراً، بات أكثر صحة، حتى أن جسده اكتسب بضعة أرطال..كانت أيام!!!
- طيب، عليّ أن أعود الآن، استودعك الله. - مع السلامة.
لوح لها مبتعداً وهو يبتسم، عادت لها كآبتها من جديد...سلمان..لماذا الآن..لماذا!!!
كان جارهم، وصديق أخيها "محمد" منذُ الطفولة، يتردد كثيراً لمنزلهم، جعلت منهُ فارسها وهو أيضاً كان يبادلها نفس الشعور وربما أكثر، لكنّ ملازمته لمحمد جعلتهُ مدمناً مثله، وكأنه طبق المثل القائل: الصاحب ساحب!!!!
ولكلٌُّ إرادة متباينة، ولصاحبنا هذا إرادة من حديد، لكنها لم تشفع له!!! فقد تعالج في إحدى عيادات الإدمان وحين تقدم للزواج منها والدها رفضه!! رفضه لأنه لا يرتضي لإبنته أن تأخذ مدمن مخدرات حتى ولو كان يحمل لقب (سابقاً)، ما أدراها ربما يعود مرةً أخرى للإدمان، دمهُ ليس نظيفاً مائة بالمائة، له قابلية للإنجذاب لأقل شئ، لمجرد الإسم فقط، رفتيل..لبتيل..تبتيزل..ال.اس.دي، هيروين..كوكايين والبقية تأتي !!! "لم لم تعطه فرصة يا والدي، لو تراه كم تغير، بات شخصاً أفضل، كل إنسان يخطأ، فإذا كان ربُّ السماء يرحم ويسامح، فلم لا نسامح ونحن عبيده..مجرد عبيد..
سامحك الله، ظننت أنك أخرجتني من ورطة، فوقعتُ في "أبو محمد" !!!! هزت رأسها بتهكم ساخر، ودلفت لتبحث عن أختها وأخيها...
=======
"-خالد" دع أختي، لا تضربها، أنا لا أحبك، لن أكلمك بعد الآن.
تطلع إلى الصغير، ثم تطلع لأخته، تلك التي تثير جنونه، يود أن يضربها أحياناً فعلاً!!!
ترك يدها بإزدراء وكأنها لا شئ، كانت طوال الوقت صامتة تتطلع له بعجب وكأنّ لوثةً أصابتها!! تحاول أن تحلل جملته الأخيرة في ذهنها لكنها لا تجدُ لها معنى أو تفسير!!
وحين تركها، أفاقت من شرودها الذاهل، وابتعدت عنه بخطوات بعيدة إلى الوراء، إلى حيثُ ينتصب عمود الإنارة، لكنها لم تصطدم به بل أصطدمت بجسد أختها العائدة للتو.
- ماذا جرى لكِ، كيف تمشين للخلف هكذا كالحمقى!!
لم تجب، لازلت تنظرُ إليه، على وجهها تساؤلات كثيرة وفي عينيه إجابات مغلقة لا تقدر أن تفك شفرتها.
تطلعت "ليلى" إلى حيث يقف أخاها وبجانبه ذلك الشخص، نقلت بصرها بين الاثنين تريدُ أن تفهم..لكن لا حياة لمن تنادي..
- لقد اتصلتُ بوالدي عدة مرات لكنهُ لا يرد. ………………….- - سنذهب لنبحث عنه في الموقف.
وأشارت ل"أحمد" فهرع إليها وهو متضايق من الموقف برمته، لا يريد أن يخسر صديقه الجديد ولا أن يُغضب أخته التي ستضبُّ جام غضبها عليه بعد قليل وكأنهُ السبب في ما حصل!!
لكنها لم تكن غاضبة، كانت حزينة أو بالأحرى لا تستطيع أن تحلل مشاعرها إلى حقيقتها تلك اللحظة..
ساروا ثلاثتهم بصمت، كلٌُّ سارح بخواطره، ليلى وسلمان، ومريم وذلك المتعجرف، وأحمد والألعاب التي لم يشبع منها بعد!!
شدتهم الفوضى، رفعوا رؤوسهم دفعةً واحدة، حيثُ يتجمهر الناس في موقف سيارات الأجرة، توقفت "مريم" وهي تشدُ على يد "أحمد"، وتبادلت وأختها النظرات، هزت تلك الأخيرة رأسها بنفي وأنطلقت إلى هناك..
وتسارعت النبضات بين خافقيها دون أن تدري سبباً لذلك، كانت تشعرُ بالجزع، بشعورٍ سئ، لا تريد أن تذهب إلى هناك وترى ما يحدث، لا تريد وكفى!!!
وتهالكت على الرصيف، تسمع توسلات "أحمد" ليلحق بأخته، تطلعت إليه لثوانٍ ثم نظرت إلى السماء، بدت النجومُ فيها قلوباً واهنة تنبضُ من بعيد، عادت تنظر بزيغ إلى "أحمد"، وتعاودُ الدعاء..
======
- هل انتهى الفيلم الهندي!! ………………….- - وددتُ أن أصوركما بكاميرة جوالي، لكني خفتُ أن تذوب العدسة!!! - تذوبُ من ماذا؟ (سألهُ بحنق.( - من حرارة المشاعر!! منذُ زمن لم أشاهد أفلاماً هندية، ذكرتني بأيام "أميتاب بشان وسرديفي" الله يذكرك بالخير!!! (وضحك مقهقهاً.( - لو تعرف كم أنت سخيف..(قالها وقد علقت ابتسامة خفيفة على شفتيه). - وما دمت يا أخي تحبها لهذه الدرجة، أخطبها وارح نفسك. - وهل قلتُ لك أني أحبها يااااا "أبو العريف"، إنها لا تعني لي شيئاً، تلك المغرورة بلا شئ. - لستَ بحاجة لأن تقول ذلك، تصرفاتك البلهاء تفضحك. - أنت الأبله بشاربك هذا. - ابتدأ موّال الغيرة. - وبالإضافة إلى كوني لا أحبها، فهي لا تصلح لي كزوجة أبداً. - لماذا؟ - كم مرّة أعدتُّ عليك قائمة مزاياها. - هذا ليس سبباً كافياً، أنت ستأخذُ الفتاة لشخصها وليس لحسبها ونسبها وما شابه. (قال بحدة استغرب منها خالد.( - حين تأخذ فتاة ما لن تأخذها وحدها فقط، بل ستحمل معها اسمها واسم عائلتها، فإذا كانت عالية رفعتك إلى فوق، وإن شابتها شائبة مرّغت رأسك في الطين!! - وما أدراك أنّ صاحبة الرصيد الكامل من النسب والحسب والمقام كما تزعم، لن تمرغ رأسك في الوحل، أتحسب كل من تعيش في بيت أهلها معززة مكرمة هي فتاة شريفة؟!! اسألني أنا، كل من أعرفهن بنات عائلات والله لا يساوون ظفر أنملة من هذه الفتاة. - ما دامت تعجبك هكذا لم لا تتزوجها أنت إذن؟) صاح فيه بغضب.( - لا فائدة منك، لن تتغير أبداً، هذا الأنف المتكبر لا يعرف الإنحناء. - صه، انظر لهذه الجمهرة من الناس، يبدو أنّ حادثاً حصل.
نظر "فيصل" إلى حيث يشير "خالد" وسارا معاً ليرا ما هناك....
========
ألم تتأخر "ليلى"؟! يكفي، ما عاد بي قدرة على التحمل، لم يعد بي قدرة على النهوض، لا بد أنّ ما أتخيله حقيقه، وساوسي حقيقة وأحلامي سراب..سراب...
سار عنها "أحمد"، لم تستطع أن توقفه، بل لم تنتبه لفراره، تخاطبُ نفسها وتدعو في سرها أنّ ما يدور في ذهنها هو من وحي تهيؤاتها فقط، فليتحقق هذا الأمل فقط وبعده لا يهم، لا يهم....
انتشلت نفسها، لقد تأخروا كثيراً، تسحبُ نفسها ببطء، تمشي بعينين نصف مغمضتين، لا تُريد أن تُصدم فجأة، ها هي تفتحها، وتغلقها حيناً حين تقترب، يالله يا لأعداد الناس الغفيرة، لكأنهم في حفل!!
اشرأبت عنقها وهي تحاول أن تقف على رؤوس أصابعها، لعلها ترى شيئاً من بين تلك الظلال البشرية، ولمحتها..
كانت جاثية على ذلك الجسد، تلمهُ بما استطاعت به أن تلمه وثلةٌ من النساء يحاولن أن يبعدنها لكنها لازالت متشبثة بذلك الجسد الذاوي.
ردت بصرها إلى الخلف بسرعة، ثم عادت لتنظر إلى الطريح على الأرض، كررت هذه الحركة عدة مرات، كانت تسمع أصوات...همسات تناديها "م..ر..ي..م" ثم تليها ضحكات مجنونة، لتعود تناديها مرةً أخرى بذلك الصوت الهامس "م..ر..ي..م".
ابتعدت عن الأشجار وهي ترتجف، لا بد أنّ حفيفها هو من يصورُ لها تلك الأصوات، اقتربت أكثر، همهمات كثيرة طغت حول المكان: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". "ليرحمه الله كان رجلاً طيباً" "مسكين، مات في الغربة، ليساعد الله عياله".
لم تصغ السمع أكثر، أذناها ترفضان استقبال هذه الكلمات، أرادت أن تدخل بينهم، أن تشارك في المعمعة، أن تغوص مع تلك الأمواج البشرية، لكنهم لم يسمحوا لها، الكل يتسابق لتصوير الحدث بالعين مباشرةً.
" ابتعدوا أرجوكم، هذا الجسد أعرفه، وتلك الفتاة التي تبكي أختي و.....أين أحمد؟!!"
رددت في نفسها بذهول السكران، عادت لتجلس على أي شئ، تديرُ رأسها حول المكان ببله، تناهى إلى مسمعها صوت سيارة إسعاف، أصوات كثيرة مزعجة، لكنها لا زالت تبحث عنه بعينيها، عيناها هما الوحيدتان اللتان تتحركا، أطرافها خدُرت، ترفض أن تُطيع وتتحرك..
شعرت بالصداع يعودُ إليها من جديد، أراحت رأسها في حجرها وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة..
اقتربا، الصور تتضح والموقف المتماهي يتضح شيئاً فشيئاً، في زاويةٍ ما كان مختبئاً، يعضُّ على يده بقوه وجسد الصغير ينشج بصمت كنشيج الميازيب في مواسم المطر، ميّزهُ "خالد" فأسرع إليه...كيف لا؟! أليست أخته!!
"- أحمد". وخرجت من فمه الصغير شهقة مكتومة، عاد ليكمم فمه بيده من جديد وجسده يرسل اهتزازات عنيفة... - ماذا بك، لم تبكي؟! …………..- - ماذا حصل؟ سأله بخوف.
لا زال يبكي دون أن يحر أي إجابة، أبعد "خالد" يده و هو ينزل بمحاذاته: - أبي..................... م..ا...ت.
وارتمى في حضنه، بهت "خالد" في مكانه، صمت لبضع لحظات، كان يضغط رأسه على صدرة بقوة لكأنهُ يودُّ اختراقه. ربت عليه وهو يفكر بالأخرى..تُرى كيف حالها الآن؟! نهض من على الأرض بعد أن هدأت شهقاته، لمّهُ بجانبه وهو يسير معه إلى هناك و"فيصل" يتبعهما، كان يزدادُ إنكماشاً كلما اقتربوا، أحسّ به "خالد" فغير رأيه، نادى "فيصل" وطلب منه أن يبتعد به قليلاً ويشتري له أي شئ ليهدئه...
أخذ يجول بين عينيه بين الحضور، أتت سيارة الإسعاف، لقد تلاشى الرمق من ذلك الجسد...
لا زالت دافنةً رأسها، تحاول أن تتجاهل كل ما يجري، أن تعزل أذنيها عن كل الأصوات النشاز، لا تريد أن تصدق ما يجري.. "أريدُ أن أعود للبيت لأرى كل شئ كما كان، كما في السابق" أخذت تخاطب نفسها، رفعت رأسها ببطء وكأنها انتبهت لشئٍ ما، شئ نسته، شئ غاب عن ذهنها للحظات..
"أحمد..."
تطلعت إلى حيثُ الناس، إلى تلك البقعة، لقد نقلوه!!! أحست بلوعة، بغثيان، برغبة في التقيؤ، دمعتها لم تحدر بعد، لم تجد لها مرسى، لازالت تائهة، ضائعة مثلها هي....
أخذت شهيقاً بطيئاً وهي مغمضة عينيها، زفرت الهواء المحبوس في رئتيها بقوة، بقوة وهي تتقرح...أمسكت معدتها وهي تشعر بشئ حارق، يغلي بداخلها، يخنقها ويحيلها إلى هشيم...
كل هذا يحدث أمامه وهو يقف ساكناً لا يجرؤ على التقدُّم، منظرها يقطعه، يفتته إلى لاشئ..
ارتكزت بباطن كفيها على الأرض، دفعت نفسها لتنهض، وبصعوبة وقفت..
تلفتت حولها، تفرقت الجموع قليلاً واتضحت الرؤية، النساء لازلن يحطن بليلى، يحاولن أن يسكتنها وصوت عويلها يخترقُ السماء، تبكي روحاً عرجت إلى الملكوت منذُ قليل...
تريدُ أن تبكي، أن تصرخ مثلها، لكن هدوءاً عجيباً يهدرُ بداخلها، يرخي أحبالها الصوتية، يمنع حنجرتها من التعبير، الحزنُ هو من يغلفها، يطوقها بتلابيبه، يعصرها عصراً ويعطل طاقتها، لا يترك لها المجال للتفكير حتى..
نادت بهمس- هذا ما استطاعته- ليلى..أنا لا أرى أحمد، أين ذهب؟!
لكنَّ الأخيرة في خبر كان!!! لم تكن تسمعها أو تراها حتى، كانت في عالم آخر، عالم بعيد، هناك حيثُ انتُشل الجسد..
رآها تحرك شفتيها في الهواء، تخاطبُ نفسها كما لو كانت مجنونة، اقترب، لم يصبر..شئٌ أقوى منه يشده، انتبهت لخطواته فاستدارت ناحيته وهي تحملق فيه دون استيعاب، عاد فكها ليتحرك من جديد وبنفس الهمس سألت: - أرأيت أحمد أخي؟!
منظرها الذاهل ألجمه، قطع نياط قلبه، تكلمه وكأنها من عالم آخر: - بحثتُ عنه لكنني لم أره، ضاع مرةً أخرى.
ثم وضعت أصبعها بسرعة على فمها وكأنها تنفي: - هو من تركني هذه المرة، لم أتركه أقسم بالله..أسأل حتى ليلى!!
حركت يديها في الهواء وهي تشير إلى "ليلى" بيأس، أردفت بإختناق: - أكلمها منذُ مدة لكنها لا تسمعني... …………….- - أ..أ..أب..أبي ينتظرنا ونحنُ لم نصلي بعد!! أبي...رددتها بشرود وهي تنظر إلى البقعة من جديد. ……………..- - لكنهُ ذهب صح؟! ذهب؟! ها أجبني؟! ذهب أم لم يذهب؟! …………….- - أتعتقد أنهُ سيلتقي بأمي هناك؟! ……………..- - كلهم يذهبون أنا أعرف، كل من أحبهم يذهبون.... ردت بصوتٍ مبحوح.
وضعت يديها على رأسها وهي تهزه، لكأنها تريد أن تبعد خواطرها، تقذفها إلى حيثُ النجوم, إلى البعيد...
عادت من هذيانها، يتأملها بعجز، تبدو كورقة خريفية تقصفت عروقها للتو، فقدت ما تستندُ إليه، فتخلل فُتاتها بين الأصابع، ارتحل مع هبّات الرياح، إلى مكان آخر..أين..لا أدري!!
أردفت بلوعة وهي تأن: - وأحمد..أين هو..ذهب أيضاً؟! - أحمد معي، لا تخافي. أجاب بصوت أجش. - أين؟! - مع صديقٍ لي الآن، اهدأي قليلاً. - لن أرتاح قبل أن أراه. "ألا تعرف أنهُ وصية من أمي، و...أبي قبل أن يرتحل".
أراد أن يعود ليرجع بأخيها، لكنّ قلبه لم يطعه أن يتركها في هذه الحالية المزرية، وقف متردداً في اتخاذ القرار ربما لأول مرة في حياته..
أخيراً أمسك بهاتفه، واتصل بفيصل طالباً منهُ أن يحضر مع الصغير..
عاد ليختلس النظر إليها، كانت واقفة بحيرة، بعودها النحيل، ورغم شحوبها إلا أنها بدت جميلة، جميلة رغم كل شئ..
حضروا، أحمد يزدادُ انكماشاً، يمشي بتردد، مدت لهُ يدها بإرتجاف وتقطعت تلك الخيوط الواهنة التي كانت تلمُّ بها نفسها المبعثرة..
الليل يزدادُ حلكة، كل شئ ساكن، ماعدا تلك النهنهات المنبعثة من تلك القلوب المفجوعة....
" وكل من عليها فان (26)ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)"
تلاشوا جميعهم، ودّ "خالد" أن يلحق بها لكن "فيصل" أمسكهُ محذراً، تابع خيالها وهو يتوارى لآخرِ لحظة، قفل عائداً إلى سيارته، طلب من "فيصل" أن يتولى القيادة وهو يفكر بصمت وألم..
(17) كان عزاءاً بسيطاً، لا يتجاوز عدد المعزين الأصابع، معظمهم من الجيران..أليسوا بدار غُربة!!!
لم تخرج "مريم" لأحد، اعتكفت في دارها، حتى "أمل" و "سلمى" امتنعت عن الظهور أمامهما..
تولّت "ليلى" إكمال المراسيم، لم يعد أحد هنا، لا أحد، لقد اختفى مصدر الأمان، بمن سيتظللون الآن؟!!
أرسلت لزوجها رسالة تخبره بوفاة والدها، ردّ لها رسالة تعزية ذكر فيها أنهُ سيعود بعد يومين لأنه لا يقدر أن يترك عمله الآن!!!
سمعت دق الباب، نهضت بتهالك وهي تُعيد ترتيب حجابها، ورغم أنها جعلت فرجة الباب ضيقة، إلا أنّ نور الشمس بهر عينيها فابتعدت قليلاً عن مصدر الضوء وهي تشرع في فتحه على مصراعيه.
- السلام عليكم.
رفعت رأسها بتعب وقد أثارها الصوت، ذكرها بشئٍ قديم: - وعليكم السلام والرحمة. - عظّم الله أجركم. - أجرنا وأجركم. - كيف حالك؟ - بخير. - محمد موجود؟
هزت رأسها نفياً...ماذا تقول له؟! أتقول أنًّ "محمد" لم يحضر العزاء حتى، وكأنّ الراحل لم يكن أباه!!!!!
وقف "سلمان" بتردد، يريدُ أن يدخل وفي نفس الوقت لا يقدر، هكذا تُحتم عليه الأصول. - أتحتاجون لشئ..أي مساعدة أنا بالخدمة..
هزت رأسها مرةً أخرى وهي تتمتم له شاكرةً، تأملها وكأنها كبرت 5 سنوات..كم عمرها الآن، آه نسيت هي تصغرني بعامين!!
- خذي رقمي، ومتى أحتجتم لشئ، أي شئ، اتصلي بي ولن أتأخر.
وقفت بتردد، أن تأخذ رقمه يعني أن تبقى على اتصال به، أن تسمع صوته من جديد، أن تراه، أن تتذكر تلك الأيام الخوالي، هي الآن متزوجة، على ذمة آخر، المفروض هو من يبقى بجانبها وليس الغريب، ولكن أين هو؟!! فضّل عمله على البقاء بجانبي..
- لحظة.
دخلت البيت لتحضر ورقة وقلم دون أن تغلق الباب خلفها، تقدم قليلاً وأطلّ برأسه حول المكان يُعاينه، عادت بسرعة وتراجع قليلاً إلى الخلف، دونت الرقم وقبل أن ينصرف قال: - انتبهي لنفسك يا "ليلى". - وأنت كذلك. (ردت بهمس.(
أراد أن يضيف شيئاً، لكنهُ أحجم، كرر عزائه وابتعد..تابعت خياله إلى أن ركب سيارته، سيارته (بي أم) أيضاً..يا للصدف!!
أغلقت الباب خلفها وهي تتنهد بأسى، بروح الغريق، لقت "أحمد" جالساً في الصالة، بات هذا الولد عدائياً، يثور بسرعة كعود كبريت، لا تعرف كيف تتعامل معه، وحدها "مريم" من تستطيع السيطرة عليه، يحبها كثيراً أكثر منها تعلم ذلك تماماً، هذا الشئ يضايقها أحياناً، و لكن أين هي "مريم" الآن، لا زالت حابسةً نفسها في غرفتها..
- "أحمد" ماذا تفعل، أقفل قناة الأغاني، لا يجوز..
نظر لها بإستهتار، أمسك بجهاز التحكم وهو يزيد من موجة الصوت، تطلعت إليه بدهشة، وعندما فاقت من دهشتها، سحبت منه الجهاز وهي تصيح فيه بعصبية.
- أجننت؟! لا بد أنك جُننت. - لماذا؟ - لا يجوز. - لماذا؟ (رفع من صوته.( - لا يجوز وكفى. - لمااااااااااااااااااذا؟ (صرخ بقوة وهو ينتفض في جلسته). - لأن...لأن أبوك ميت ولم يمر عليه إلا بضعة أيام.
هدأ في مكانه وهو ينظر لها بغضب، بحقد، لا تدري لم تعرف أن تميز نظرته، ماذا حلّ به؟؟!! "تعالي يا مريم وانظري..".
وقف بقامته الصغيرة ودلف عنها إلى غرفة والده، لم يرضى أن يتركها وينام معهما، حاولت معه بشتى الطرق، حاولت أن تخيفه حتى ومع هذا أصرّ على رأيه ذلك الطفل!!!!
أرادت أن تلحق به، ولكن ما الفائدة، لن يسمع لها، هزت كتفيها بيأس وسارت لأختها، هي الأخرى انقلبت 180 درجة، ولكن من منا لا يتغير؟!!
==============
- الجامعة كريهة بدونها، مملة لا طعم لها. - لا تحس بقيمة الشئ إلا بعد أن يغيب عنك. - صدقتِ. ردت "أمل" بشرود. - فاتتها العديد من المحاضرات، بالإضافة إلى الإختبارين الذين قدمناهما. - امممم، بالنسبة للإختبارين فلديها عذر رسمي، أما بالنسبة للدروس فسأحاول تزويدها بالشرح والملاحظات. - ألا تعلمين متى ستعود للجامعة؟ - لقد اتصلتُ بها البارحة وأخبرتني بأنها ستلتحق بنا هذا الأسبوع، تنتظر أن تنظم أختها أوقات عملها حتى تبقى إحداهن مع "أحمد" إذا غابت الأخرى. - آآه..مسكينة، حياتهم تبدو صعبة هكذا. - الحمدُ لله على كل حال، هذا ما كُتب لهم. - ونعم بالله.
دخل "الدكتور" فصمت الجميع، توقفت "أمل" هي الأخرى عن الكلام ولكن ليس بسبب دخوله هو، ولكن للسائر خلفه وهو يرمقها بإبتسامة ود وأكثر....
أطرقت بخجل، وقلبها يكاد يقفز بين جوانحها، تابعته بعينيها إلى أن سار إلى مقعده بالخلف، انتبهت لها "سلمى"، لكزتها بذراعها وهي تهمس: - إلى ما تنظرين؟! لقد بدأت المحاضرة.
اعتدلت في جلستها، لكنها لم تفهم شيئاً من المحاضرة، كان عقلها شارداً، يحلق في أجواء الصف، مع ذلك الجالس بالخلف، متى سينطق متى؟!!!
===========
دارت حول الصالة بتوتر، أخذت تقرأ عقارب الساعة كل حين، بات يتأخر كثيراً عن السابق، بل أصبح يحدد لها موعداً كما لو كانت تعمل لديه والمصيبة أنه لا يحضر أيضاً!!!!
لم تعد تراه إلا بالمكتب صباحاً ويكون حينها مشغولاً بإجتماعاته التي لا تنتهي، وحين تدق الواحدة ظهراً تعود للمنزل حتى تتكفل بأحمد أثناء عودته من المدرسة..
الحياة باتت صعبة، صعبة وقاسية جداً بعد أن ذهب والدهم، كل شئ تغير، جدول حياتها بأكمله تغير!!!
فتح الباب وأطلّ بوجهه العابس، لم يعد حتى يصطنع الابتسامة في وجهها!!! شبكت ذراعيها وهي تخاطبه بسخرية: - كم أنت دقيق في مواعيدك!! لم يُجب، ألقى بشماغه وتهالك على أقرب كرسي....
تقدمت منه بغيظ، تخاطبه وكأنهُ لا يسمع، لا يختلف عن الجدار في شئ... - إلى متى سيستمر الأمر بيننا هكذا؟ - أيُّ أمرٍ تعنين؟ (سألها ببرود وهو يفتح نصف عينيه.( - زواجنا إلى متى سيظلُّ بالسر. - قلتُ لكِ اصبري إلى أن تتحسن ظروفي. - وإلى متى سأنتظر هذه الظروف لتتحسن..ماذا تنتظر؟! أتخشى أن تُصارح زوجتك بأنك تزوجت سكرتيرتك، إذا كنت خائفاً أعطني رقمها وسأخبرها بذلك.
فزّ من مكانه وكأنّ أفعى لسعته، صاح فيها بغضب: - لا دخل لكِ بزوجتي وأطفالي، أتفهمين.. - أنا أيضاً زوجتك، أم نسيت أيها المدير المحترم؟
ضرب كفاً بكف وهو يتعوذ من الشيطان الرجيم، من قال أنَّ النساء بلوى؟!!
- أنا لم أنسى ذلك قط، ولكن قدّري ظروفي فقط، امهليني وقتاً إضافياً.
عادت لتتحرك في القاعة بعصبية تخاطبُ الكل وتلتفت إلى اللا أحد!!! صاحت فيه: - أنا لم أعد أتحمل، لا أقدر أن آتي هنا كالسابق أو أتأخر على البيت، هم بحاجة ماسة لي ونحنُ فتيات لوحدنا، وإذا رجعت إحدانا متأخرة بدأت الألسنة تلوكُ في سيرتنا، تعبتُ من هذه الحياة..تعبت.
"أتزوجت كي أتعذب!!"
وانخرطت في بكاءٍ مرير وهي تصفع على وجهها، حاول تهدأتها ولكن دون جدوى، أخذ يخاطب نفسه بضيق "أيُّ مصيبةٍ أوقعت نفسك بها يا أبو محمد؟؟!!"
=====================
" ماذا تفعل الآن يا تُرى؟!"
ليت بإمكاني أن أراها، أن أرى ما تفعله، ألا زالت تبكي أم نسيت؟! يا لي من أحمق، كيف تنسى؟؟هذا أبوها..
خرج من غرفته وهو يشعر بالإختناق، بالحيرة، مرّ أمام غرفة أخته، توقف برهة، مدّ يده ليخدش بابه لكنهُ أحجم..ماذا تريد منها؟! ماذا ستقول لها: كيف حال صديقتك!!! وما شأنك أنت!! هكذا ستردُّ عليك..
يكفي يا "خالد" تماسك، أتُريد أن تكون أضحوكة أمام أختك الصغرى، تلمزك وتفقد هيبتك..كلا كلا، لا ينقصني إلا الأطفال لأفشي لهم بسري..
أيُّ سرّ، ماذا تقول؟!
ها بتّ تهذي من جديد، جعلتك تهذي، كل ما أنا فيه بسببها، كيف يقلب شخص ما حياتك برمتها، يغير جزيئاتها ويكسر روتينها، تنتظر لمسته السحرية لتعيدك إلى صوابك، إلى اتزانك، إلى "خالد" الحقيقي..
عُدت لأهذي من جديد..
دع ذكرهنّ فما لهنّ وفاءُ.. روح الصبا وعهودنّ سواءُ.. يكسرن قلبك ولا يجبرنه... وقلوبهنّ من الدواءِ خلاءُ!!!
اسمع يا "خالد" جيداً، مفاتيح "فيصل" اللعينة باتت قريبة من متناول يدك الآن، قاب قوسين أو أدنى، انتظر اللحظة المناسبة وسينتهي الأمر!! ستنساها هذا مؤكد، من هي أصلاً كي تفكر فيها، ولكن.........
والتفت إلى المار بجانبه وكأنهُ يمر على شبح، لا تحية..لا سلام..ولا تعبير حتى!!!
قال بإستهزاء مشوب بالغيظ: - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!!!
توقف "راشد" برهة، لم يجب ثمّ شرع بالتحرك من جديد: - أحادثك، فلا تُدر لي ظهرك. - نعم، ماذا تُريد؟ سأل ببرود. - حالك هذه الأيام لا يعجبني.. - أعملت محللاً نفسياً أيضاً. - أكلُّ هذا من أجلها؟! لأنني سآخذها؟!
وهزّ رأسه وهو يتظاهر بالأسف، كان يريد أن يغيظه، يحرق قلبه، لماذا؟! لأنهُ يحترق أيضاً، نارٌ مشبوبة تتراقص بإستهتار في جوفه، تحيله إلى رماد!!! يا لساديتك يا "خالد" يا لساديتك!!!
نظر لهُ "راشد" بثبات هذه المرة، وعضلة صغيرة تنبض بوضوح أسفل فمه، لو كانت العيون تُحرِق لاحترق "خالد" في مكانه منذ زمن!!
- لقد تأخرتُ عن عملي، مع السلامة.
وابتعد، انفكّ رباط حذائه، فعاد ليربطه من جديد بيدٍ مرتعشة، يدٍ ضعيفة لا تقوى على دفع الأذى لا عن نفسها ولا عن من تحب..
تابعهُ "خالد" وهو مستغرب من نفسه، لم هو هكذا...لم يعاملهم بهذه الطريقة؟! كثيراً ما سأل نفسه هذا السؤال ولكن دون أن يحصل على إجابة شافية، عاد لينظر لباب غرفة أخته وهو يغمغم بشرود: "لتعرف سبب المصائب كلها..فتش عن المرأة وستعرف!!!!"
(18) عادت لمقاعد الدراسة من جديد، أسبوعان لم تطأ قدماها فيها الجامعة، فاتها الكثير من الدروس في الأيام الخالية...
التقت ب"سلمى" و"أمل" في الكافتيريا، أخذنها بالأحضان، كان الإلتقاء بهم من جديد شيئاً رائعاً، أشعرها بالدفئ وإن شابته ذكرى مريرة...
تحدثن في كل شئ ولا شئ!! كانت تتخلل أحاديثهن لحظات صمت من جانب "مريم"، وكنّ يحترمنها، لحظات الخواء من منّا لم يمر بها؟!!
أرادت "سلمى" أن تلطف الجو الكئيب، أخذت تعبث بأزرار هاتفها، أشرق وجهها وهي تقول: - أسمعتما بآخر نكتة؟ - كلا. ردت "أمل" بحماس، واكتفت "مريم" بالنظر إليها بإبتسام. - إذن اسمعن: محشش منسدح على الأرض ليش؟؟؟ مكتوب على اللوحه ممنوع الوقوف!!!
وانفجرت "سلمى" ضاحكةً (نكتة سخيفة)، أما "أمل" فقد نكست رأسها وكأنها لم تسمع، حركت "مريم" مقعدها بحرج وقد بهت لونها، تطلعت لها "سلمى" بتعجب والضحكة لا زالت عالقة على شفتيها: - ماذا؟ أين ستذهبين؟ ردت بغصة: - سأذهب إلى المكتبة، تنقصني بعض المراجع..
وسارت عنهما، حينها التفتت لها "أمل" بغضب: - هل أنتِ حمقاء؟! - ماذا..ماذا فعلت؟! سألت بقلق. - أهذه نكتة تُقال؟! - وماذا بها؟!!
تطلعت فيها بحنق ولم ترد عليها، هي لا تعلم بشئ وليس هناك ضرورة لأن تخبرها.. "من ستر مسلماً سترهُ الله يوم يلقاه"...
تساءلت "سلمى" في نفسها: "يا ترى فيما أخطأت أنا؟!!"
لم تذهب "مريم" إلى المكتبة، كانت تسير دون هدى، تشعر بالضيق، لم تكن غاضبةً من "سلمى"، تعرف أنها قالتها ببراءة وأنها ستأتي لتعتذر منها بعد قليل دون أن تدري لم تعتذر؟!
"نحنُ لا نزرع الشوك"......
وأنا ولدتُ والأشواك مزروعة في جبهتي، تمنعني من أن أرفع هامتي عالياً لأحلق حيثُ الغيوم، إنها لا تلبث إلا أن تجبرني على الإنحناء صاغرةً بالرغم من أنني لم أزرع الشوك، لم أزرعه، أتفهموني....
===========
رنّ هاتف المنزل، كانت جالسة في الصالة، تُراقب "أحمد" وهو يشاهد التلفاز، لم تشأ أن تقوم، كانت تشعر بالتعب، لكنّ الرنين اللعين لم يتوقف!! نهضت وهي ترفع السماعة ، ردت بصوتٍ بائس:
- آلو. - السلام عليكم. - وعليكم السلام والرحمة. - ليلى؟! - نعم. - هذا أنا "سلمان". - أعرف..
تلتها فترة صمت، أخذ نفساً عميقاً ثم أكمل: - ليلى... - نعم. - أعلم أنّ مثل هذه المواضيع لا تصلح أن تُقال في الهاتف ولكني لا أملك الجرأة لأن أقولها أمامك وجهاً لوجه.. …………..- - ليلى أنا...أنا سأعود إلى البحرين بعد يومين، انتهى عقدي كما أخبرتك و... ………….- - ليلى أنتِ معي؟!
هزت رأسها إيجاباً لكأنهُ يراها!! كانت خائفة من الكلمات القادمة، تترقبها بلهفة و....
- ليلى، أريدُ أن أعود إلى البلاد ونحنُ متزوجان..
تلمست المقعد بيدها بإرتجاف، الدنيا أضحوكة، أضحوكة سقيمة، أضحوكة تُثير اشمئزازك، تسبب لك السقم..لماذا الآن، لماذا؟! أتريد أن تقلب بقية حياتي حسرات؟! كنتُ سأرضى بهمي، بشقائي، كنتُ قانعة بالتعاسة مع ذاك، لم جأت الآن، لم؟!!!
ليتك جأت من قبل، منذُ بضعة شهور..الآن لا ينفع، لاشئ ينفع، لاشئ..
- أعلم بأنّ الوقت قد يكون غير ملائماً، ولكن ظروفي تحتم عليّ ذلك.
"يالله، كلهم عندهم ظروف!!! كلهم يطلبون منكِ أن تتحمليها، أليسوا كلهم متشابهين؟!! لحظة، هذا ظروفه تختلف عن الآخر!!!"
- ليلى تعرفين أنني أحبك، وأنني لم أكف يوماً عن التفكير بك، والدكِ (يرحمه الله) كان محقاً في رفضي حينها، ولكنني الآن تغيرت، أقسمُ لكِ بذلك. - ليلى أنا....
"يكفي، أرجوك يكفي".
- سلمان أنا لا أقدر أن أوافق. - لم، لقد تغيرت صدقيني. - ليس الأمرُ هكذا. - إذن؟
"لأنني متزوجة، متزوجة".
- لا أقدر أن أترك أخوتي. - سنأخذهم معنا، كلنا سنعود إلى الوطن، وتأكدي أنني لن أقصر تجاههم أبداً.
"أترك لي باباً واحداً، فُرجةً على الأقل لأرفضك".
- أنا... - أرجوكِ لا تتسرعي، لا تحكمي على مصيرنا منذُ الآن، فكري جيداً وسأعاودُ الاتصال بكِ غداً.
"مصيري حُدد منذُ زمن يا سلمان، حُكم عليّ بالإعدام، أتهاوى كخيوط دمية واهنة معلقة بين السماء والأرض"....
الجزء [6] من قصة ضلالات الحب
أغلقت السماعة وقلبها يهوي ببطء إلى الأعماق، أحست بالدوار، غرست أصابعها بين خصلات شعرها الأحمر، ضغطت بقوة على رأسها، يكادُ أن ينفجر..
غريبة، غريبة، غريبة!!!! رددت.
كان "أبو محمد" فرصةً، وكنتُ أخشى أن تمر مر السحاب، وها باتت سحابة مبلدة، تأنُ من وطأ ثقلها، توشك على السقوط من علو، تذهب سحابة وتأتي سحابة، نأمل في السالفة ونبكي على التالفة!!
لمَ يتسرع الإنسان في اتخاذ قراراته، أ لأنهُ لا يعرف ما يخبأه له القدر؟! دائماً يخاف، دائماً يتردد، هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟! هل كل قراراتنا لنا يدُّ فيها، أم أنها كانت مكتوبة أصلاً في اللوح المحفوظ منذُ الأزل؟!!
في بدايتي....نهايتي، أم في نهايتي بدايتي، لا أعرف، لم أعد أعرف شيئاً، كل شئ سراب، كل شئ كذبة، الحياة بأكملها كذبة، ولكن من منّا لا يصدقها، من منا لا يتعلق بها بأهداب عينيه....
فُتح الباب، وأطلت "مريم" عائدةً، لقد انتهت مهمتها الآن، نهضت من مكانها وهي تشعر بالتعب يجتاحها، أوصدت باب الغرفة خلفها، تصفقه بقوة، لعلّ صدى صوته يُعيدها إلى صوابها، ليرتب خطوط حياتها المتشابكة كبيت العنكبوت..
"- مريوووم". - نعم.
قام من أمام التلفاز واقترب منها، شدّ طرف عباءتها وهو يقول: - لقد طلبت منّا المعلمة أن نشتري قطعة قماش جوخ وكرة بلاستيكية وصمغ اممم لا أذكر اسمه، كي نصنع دمية.. - متى؟! - غداً لحصة الرسم.
فكرت قليلاً ثم ردت عليه بإبتسام: - لا بأس، سنذهب عصراً لنشتري.
لم يعلق، وعاد ليجلس من جديد أمام التلفاز، تأملته، كيف تغير هكذا؟! أين مرحه..أين شقاوته التي طالما دوختها؟! لم يعد يصر على شئ، إما غاضباً أو....صامتاً!!!!!
حملت كتبها ودلفت لغرفتها هي الأخرى، لقت أختها جالسة أمام الحاسوب بشرود، ألقت عليها التحية، ردت عليها دون انتباه.
"- ليلى". - نعم. …….- صمتت و قد تغير وجهها، وحين طال صمتها رفعت ليلى رأسها مستفهمةً: - نعم، ماذا تريدين؟ - أريدُ بعض المال، ليس لي وإنما لأشتري لأحمد بعض اللوازم المدرسية. - ولم تقولينها هكذا؟ - وكيف أقولها؟! - لستِ بحاجة لأن تبرري طلبك.
ونهضت لتخرج أوراقاً نقدية من حقيبتها، لا زالوا في منتصف الشهر ورصيدها من نقود العمل بدأت تنفد، لا بد أن تطلب من "أبو محمد" مبلغاً إضافياً...لو كان أبوها يعمل موظفاً في الحكومة للبّى معاش وفاته احتياجاتهم.!!
أمسكت يد أختها ونقدتهم إياها ، قبضت "مريم" على تلك الحفنة من الأوراق وهي تشعر بالذّل، تشعر كما لو كانت تشحذ فعلاً، بالرغم أنّ النقود ليست من غريب بل من أختها..
تطلعت إلى السقف، ودت لو تخترقه، همست إلى ذلك البعيد، هناك في السماء، أتُراه يسمعها الآن!!
"رحمك الله يا والدي".
هزت رأسها، ودلفت لتغير ملابسها، لتريح نفسها من عناء يوم طويل لا نهاية له.....
دقت الساعة الرابعة، دلفت لغرفة والدها أم تقول غرفة "أحمد" الآن، دقت الباب تنتظر الإذن بالدخول، تنتظر أن يقول لها بصوته المتعب: تفضلي.
لكن لا إجابة، لقد خرس للأبد أليس كذلك؟! حركت إكرة الباب بخفة، كان يدثرُّ نفسه باللحاف، وقد بدا كنقطة صغيرة تائهة على هذا الفراش الوثير، انتبه لها لكنه لم يعدل من جلسته. "- أحمد" قم لنشتري. - لا أريد..أريدُ أن أنام. - ماذا بك؟هل أنت مريض؟!
واقتربت منه بقلق وهي تضع باطن كفها على جبهته لتتحسس حراراتها، كانت الحرارة طبيعية.. أبعد يدها وهو يدفن وجهه في الوسادة بضيق..
تفاجأت من حركته، لمت يدها إلى صدرها وهي تنظر له بعتاب، كادت وسادته أن تخنقه من ضغطه المتزايد عليها، خرجت من غرفته، حينها ترك لدموعه العنان، شفافة هي بلون النجوم، وثقيلة كأنها تزن أطنان!!!
قلب وجهه على الوسادة، ليعبّ في صدره الهواء، تطلع إلى الباب حيث خرجت، صاح بهمس: "- مريووووووووم"!!!!
خرجت إلى الشارع، والأفكار تتقاذفها من كل حدبٍ وندب، أقشعر جسدها حين لامس تيار هواء بارد مرّ ناحيتها..
أسرعت في خطاها و دخلت المحل بسكون، تحاول أن تتذكر ما طلبهُ منها....
ورأته!!!
تعتقدون من؟!!
أحمد؟!
كلا..ليس هو..
بل ذاك، ذاك الواقف هناك والساكن هنا، بين الضلوع...
كان واقفاً لوحده يشتري مثلها.....
مشت إلى الوراء بحذر، آخر شئ تريده هو أن يراها، ستحاول أن تنساه، أن تتشبث بأمل موؤد هو حلمُ الغرقى، حلمُ الحمقى، أمل الضعفاء وهي ليست بضعيفة...
لا زال في مرمى بصرها وإن تماهت صورته خلال المشتريات، دارت وقلبها يرجف، أغمضت عينيها، عصرتهما بقوة لعلها تطرد صورته من ذهنها، تقتلعه من صدرها إن استطاعت...
ورغم أنها لا تتغطى، إلا أنها أسدلت ذيل خمارها على وجهها، هكذا أفضل...تمتمت في نفسها.
اشترت كل المستلزمات بسرعة، نست أشياء وأخذت أشياء، لكن كل هذا لا يهم، المهم أن تخرج من هذا المكان، ومن كل مكان يتواجد فيه.....
دفعت وهي تلتفت حولها لتتأكد، لقد ذهب ولكن ليس مع الريح!!! يا رب احفظه أينما سار....
أزاحت طرف الخمار عن وجهها، أمسكت الكيس بيدها ومحتوياته ترتجُّ مع كل حركة من حركات جسمها الخافقة..
خرجت من المحل، تسبقها لوعة، لم تنهال عليك السهام من كل جانب؟! قدماها تتحركان بضعف، بخفي حنين..
- تهربين مرةً أخرى!!! شهقت في مكانها للصوت القادم خلفها، أفي حلمٍ هي أم حقيقة!!
- أتعتقدين أنني لم أرك..
لازالت موجهةً ظهرها إليه بذهول، وقد سقطت ظلاله عليها، ظلاله تؤكد وجوده..هي إذن ليست في حلم.....
أرادت أن تسدل عليها الخمار من جديد، انتبه لحركتها، دار حولها وهو يوقفها بترجي: - أرجوكِ، تغطي عن الكل إلا أنا.
أعادت يدها اليُمنى إلى مكانها بإرتجاف، تأملها وهي مطرقة بحيرة، كأنهُ يراها أول مرة، شعرت بأنّ نظراته تخترقها، تفضحها، تكشف سرها، رفعت رأسها فجأة.....
وتعطلت لغةُ الكلام فخاطبت عيناي في لغةِ الهوى عيناكِ لا أمسى من عمر الزمانِ ولا غدا جمعُ الزمانِ فكان يوم لقاكِ.... (أمير الشعراء(
أطرقت من جديد، ارتجفت أهدابها، أنتِ تتوهمين، تتخيلين أشياء لم يقلها، عيناهُ كاذبتان مثله!!!
أتاها صوته متسائلاً، مليئاً باللوم، بالعتاب: - عمن كنتِ تختبئين؟! عني؟! - ولم أختبئ!! ....سألته بهمس وهي تطلب من قلبها أن يخفف من وقع ضرباته، تخشى أن يسمعها ذلك الواقف أمامها عن كثب. - أنتِ من تملكين الإجابة.. ……………………..- - تخافين من الاعتراف بالحقيقة؟!
أيُّ حقيقة تعني؟! حقيقتي أعرفها وبتُّ أخاف منها، أما الحقيقة الوحيدة التي أعرفها عنك هي أنك ستتزوج..ولكن متى؟! أرجوك أخبرني قبلها كي أحيك ثوب حدادي!!
هزت رأسها بإنكسار، وشرعت في إكمال طريقها، دار حولها من جديد مانعاً إياها من السير..
تأملته الآن عن كثب، بدا نحيلاً، وقد نبت زغبٌ خفيف أسفل ذقنه، حول عينيه ارتسمت دوائر نشرت ظلالها السوداء، أيُجافيه النوم هو كذلك؟!
عيناه مسهدتان، ما عدا ذلك البريق الذي يومض، يبعث فيهما حياةً أخرى.
"يكفي، لا تحلمي أكثر، أحلامنا هي من تغتالنا، تُعطينا السراب!!"
مرر يده في شعره بجهد وهو يقول: - أنا تعبت، ألم تتعبي أنتِ أيضاً؟! - تعبتُ من ماذا؟! ...صاحت بإنفعال. "أنا من تعبت، لقد أتعبتني، جرحتني في صدري وبتُّ أنوء بآلامي لوحدي، وحدي فقط". - من اللعب في حلقةٍ مفرغة. (أجاب بعصبية.( - أنا لم أفعل شيئاً!! (قالتها وهي تُدير وجهها للجانب الآخر). - تريدين أن أتقدم لخطبتك..أهذا ما تريدينه؟! (سألها وغضبٌ يتجمعُ بين عينيه من لا مبالاتها).
سقط الكيس من يدها، تناثرت محتوياته وسط دهشتها، هبت الريح عاصفةً ناحيتهما، تحاول أن تستوعب ما قاله، انتبهت لنفسها وهي تطيل النظر فيه دون تصديق، جثت على الأرض بمهل تحاول أن تلتقط الأشياء، يدها ترتجف، لا تقوى على مسك شئ، حذا حذوها، ألتقطها في ثوانٍ وأعاد وضعها في الكيس، مدّهُ لها، تناولته بآلية، استطال في وقفته أماّ هي فلا زالت جاثية.
- أهذا ما تريدينه؟! (كرر سؤاله، ورغبة بالتشفي تسيطر عليه.(
لم ترفع رأسها، لم تشأ أن تراه من علو، أليست هذه هي المسافة الحقيقة الواضحة بينهما!!!
- أنا لا أريدُ شيئاً منك. (ردت بإختناق.(
"يا لسؤاله الأحمق!! ماذا يريدني أن أقول؟! ثم ألن يتزوج بابنة عمه، قل لي أنت أي لعبة تريد أن تلعبها علي؟!"
لم يُبالي بما قالته، أكمل وكأنهُ يخاطب نفسه، يُخاطبُ الشخص الذي بداخله وليس هي: - أتعتقدين إن مثلي قد يتقدم لخطبتك يوماً؟! …………………………………- - أو أننا سننجح معاً، رغم كل التباين الذي بيننا؟!! …………………………………- - أو.....
قاطعته وهي ترفع رأسها غاضبةً: - يكفيييي، أنت شخص مريض، أتعرف بمَ، مريض بمرض الغرور، بمرض العظمة، تعتقد أنّ ما سواك لا شئ وكأنك الشئ الوحيد في هذه الدنيا...اسمع لو كنت آخر رجل في الدنيا ما أخذتك!!!!
قست ملامحه، بدا شكلهُ المتوفز مخيفاً تلك اللحظة، لكنها استعادت رباطة جأشها، ماذا يستطيع أن يفعل؟!
- إذن هذا رأيكِ بي، أني إنسان مريض؟! - أجل. (ردت بصوتٍ عالٍ لتخفي ارتجاف أحبالها الصوتية.( - ولو كنتُ آخر رجل ما أخذتِه؟! - أجل. (عادت لترد بهمس.( - أهذا كل ما لديكِ لتقوليه؟! - أجل. (كانت ستبكي حينها.(
تنحى عن طريقها، فاستنهضت نفسها بثاقل..الضغط الذي مارسه عليها كان أقوى منها، كلماته كالطلقات تخترقها بلا رحمة..
بديا متساويان الآن تلك اللحظة.....
- اسمعي..
توقفت، تُراقب التحول المفاجئ في شخصه، أردف ببرود والفجوة بينهما تتسع، تتسع كحلقة مفرغة!!
- أعطيتك فرصة والفرص تأتي مرة واحدة، وتمر مرّ السحاب..اذكري هذا جيداً...
" ها نحنُ عدنا إلى الفرص والسحاب من جديد!!!"
نظرت إليه لثانيتين وأكملت طريقها وغصة جديدة تعلق بحلقها، لن تفهمه أبداً..لن تفهمه....
أما هو فقد انتظر إلى أن غاب طيفها تماماً، حينها هزّ كتفيه وأكمل طريقه هو الآخر......
===============
لم يسكت الهاتف عن الرنين، لكأنه يعلن احتجاجه بقوة، يستصرخ تلك الجالسة بصمت، تلك الواضعة يديها أسفل ذقنها بتفكير، فتحت عينيها بإضطراب وهي تلعن في سرها من اخترع الهواتف!!!
بماذا أردُّ عليه أجيبوني!!!
جرّت نفسها وهي تصيغ السمع للكلمات التي تسري بحنو موجع في سلك الهاتف.
- ها ماذا قلتِ؟ تساءل بلهفة. - اعذرني، لا أقدر أن أوافق. ردت بألم. - لمَ؟! - ظروف!!!!
"لديّ أنا ظروف مثلكم!!"
- لأنني كنتُ مدمناً قوليها. علق بإنكسار. - كلا كلا، ليس لهذا السبب. ردت بسرعة. - إذن؟! - أخوتي بحاجة لي الآن، لا أستطيع مفارقتهم. - سنأخذهم معنا، وسأرعاهم كما لو كانوا أخوتي بالضبط.
"أيُّ قلبٍ حنونٍ تحمل بين جناحيك".
- الوقت ليس مناسباً الآن. - بإمكاني أن أنتظر. قال وهو يتشبث ببصيص أمل، يرجوها بصمت، بصمت الغريق.. ………………………-
"لا أستطيع لا اليوم ولا غداً ولا حتى بقبري!!"
- أرجوك..أرجوك لا تضغط عليّ أكثر. ردت بتقطع. - سأعود غداً إلى البحرين و.... - بالسلامة...سلم لي على أهلها. قالت والشوق يأخذها إلى هناك، تتجاوز كل المسافات، حيثُ مدينتهم، حيث بيتهم الصغير...
أردف بأمل: - وربما أعودُ هنا مرةً أخرى.. ………………………- - ليلى؟ - نعم. - سأظل أنتظرك...
أغلقت السماعة دون أن تسمع المزيد، كان جسدها يهتز بعنف، أسندت نفسها على الجدار، تنظر للمكان بعينين غشيتهما دموع، دموع القهر، دموع الندم، دموع السحاب!!!
"آآآآآه، يا آهةً في القلب عودي، عودي، يكفي ندم، يكفي ألم، يكفي عذاب، يكفييييي!!"
ضغطت بخدها على الجدار تبلله، تلهبُه بأنفاسها الحارة، تكويه بسياط نارها، شهقاتها ترتفع شيئاً فشيئاً، عضت على شفتيها بقوة لتكتم صرخاتها النابعة من الأعماق، تحس بطعم الدم دافئاً يختلط بريقها ويشعرها بالخدر، يا ليتها تبقى هكذا طوال العمر....
اتحدت مع الجدار تلك اللحظة، كانت تطوقه بجسدها المهتز، طافت كل الصور أمام عينيها، أطياف الأمس كلُّ الأمس تتراقص بخفة، بتوهج، حين كانت طفلة سعيدة مع أمها وأبيها..أيُّ سعادةٍ بعد هذه تأتي؟!
عادت الصور لتومض من جديد، تلاشت الألوان، ولم يبقى إلا اللونين الأبيض والأسود...
ها هي مراهقة، حقيبتها المدرسية تتهادى معها وهي تجرُّ الخطى إلى المنزل مسرعةً، ففي هذا الوقت يعود محمد مع سلمان من المدرسة الثانوية، وهي تريد أن تراه، كان حبها الأول، أول حروف الحب صاغتها من أجله، لم تظهر فيها موهبة كتابة الخواطر إلا بعد أن تتلمذت على يديه، في مدرسة حبه...أعلم أنهُ كان حب مراهقة، لكنه يبقى حباً وكفى...
ويعصفُ بهم الزمن، ويا لعواصفه، تدمرك، تشتتك، تذروك كالرماد وتقتلعك من جذورك، فتتساقط الأوراق، تنسابُ ببطء، ببطءٍ مميت، بدءاً من الأم مروراً بمحمد وانتهاءاً بمن؟! بأبي!!! ها قد اختلّ الميزان، تحطمت أعمدة البيت، أين المستقر، أين؟!
ولازالت الدوامة في استمرار، تأبى أن توقف حركتها المجنونة، أينما وجهت وجهك صفعتك، فلم تعد ترى أمامك ولا خلفك، هكذا تائه، والأمواج تتلاطم، تستمر في نحتها لقدرك والعنكبوت لا تلبث أن تخيط خيوطها بوهن، بوهنٍ شديد..
وتوقفت الصور، تعطلت الآلة، بات المنظر أسوداً كطيلسان امرأة، ها هي صورة "أبو محمد" تكبر وتكبر لتُغطي على الصور كلها، تبصم عليها بالعشر، ويسيل الحبر غامقاً، لزجاً، لا تكفيه كل قطّارات العالم!!!!
انتزعت نفسها غصباً، فتساقطت الصور الواحدة تلو الأخرى، ماعدا صورة "أبو محمد"، أخذت تتكسر شيئاً فشيئاً وصدى فتاتها يرنُّ في أذنيها كطبول مجنونة...
باقي على الزمن ساعة، أقل من ساعة.....
عزمٌ جديد يتجسّد في عينيها، في صدرها شحنات غضب، آن لها أن تفرغها، لكل شئ حد، وبدون حدود لا تستقيم الحياة...
ارتدت عباءتها، ستقابله اليوم، لا بد أن تحسم الموضوع، ستحاول معه بكل الطرق، وكل الطرق تؤدي إلى روما..أليس كذلك؟!!
===========
كان يتحدث كثيراً، في أشياء كثيرة دون أن يفقه منهُ شيئاً، كان غارقاً في لجةٍ عميقة من الحزن، من اليأس...
"مريض، قالت عني مريض!!"
وضحك بألم، التفت له "فيصل" بتعجب، لكنهُ لم يبالي، لازال مستمراً في الحديث مع نفسه، يسترجع حروفها عن ظهر قلب، كلا لم تكن حروفاً كانت طعنات، رصاصات طائشة في القلب الأعمى.....
اقترب منه "فيصل" لمس كتفه فالتفت له، سطور الحزن وجدت طريقها في حنايا بشرته، حفرت في مرآة وجهه كلمات!! أخ ما أقسى الكلمات...
- ما بك؟!
هزّ رأسه وهو يزفر من الأعماق: - تلك المجنونة..طالبة علم النفس، تقول عني مريض!! - أيّ مجنونة؟! - من غيرها تلك المشاكسة..
ضحك "فيصل" ملئ فمه و"خالد" ينظر له بتهديد، جلس بجانبه طالباً منه أن يحكي له ما جرى، استمع بإنصات في بادئ الأمر، ثم ما لبث أن أنفجر ضاحكاً من جديد وعيناه تدمعان: - قالت عنك مريض!!هههههه..لقد صدقت فيما قالت. - ماذا؟! (تساءل بغضب.( - نعم مريض ومجنون أيضاً. - لالالا هذا كثير. - وهل يوجد رجل عاقل في الدنيا يسأل فتاة أتريدين أن أخطبك؟!
وقف "خالد" وهو يشبك يديه بعصبية: - كنتُ أريد أن أعرف ردة فعلها، أن أحرجها ربما..لا أدري.. - لماذا لا تقلها بصراحة، لا يوجد أحد غريب هنا بيننا لتخجل منه. - أقولُ ماذا؟ - تقول أنك تحبها. - مثلي لا يحبُّ مثلها. (ردّ بأنفة.( - عدنا للأنف المرفوع. - أنا شخص واقعي. - ومادمت واقعياً هكذا أتركها وشأنها، لا تشغل نفسك بها. - ليس قبل أن أشفي غليلي منها، لكن لا أعرف كيف... - تزوجها. - أتزوجها؟!
هزّ رأسهُ بالإيجاب وهو يدرك أن كل الأعذار الذي ذكرها صديقه واهية، يعرفه تماماً، مهما كابر وأنكر....
- قالت لي لو كنت آخر رجل في الدنيا ما أخذتك. - لا عليك منها، كلهن يقلن هكذا، إذا قلن لك لا، فهذا يعني نعم، أسألني أنا..أسأل مجرب ولا تسأل طبيب...
قلب الفكرة في ذهنه، كلماتها تطفو أمامه، تعلو كل حين، والصورة لا تكتمل....
أتدرون ما قال؟! . . . . . . . . . . . . . وكيف لي أن أعرف!!! لم أكن هناك ...
=================
وتشابكت خيوط العنكبوت بوهن... وبدا اليوم طويلاً طويلاً لا نهاية له..
ولم يتبق من الزمن إلا ساعة، ساعة واحدة فقط!!!! الخيوط تذوي....
والرياح في الخارج تعوي كذئابٍ مجنونة!!!! وبدأت حبات العقد تنفرط......
أحداث خطيرة تنتظر أبطالنا في الجزء القادم فانتظروني ...
(19) ارتفع صوتها حدةً: - وماذا لو حبلت؟! - ألم أوصك بتناول حبوب منع الحمل بإنتظام. - أخاف أن أشربها الآن، سمعت أنها تسبب العقم. - من قال لكِ هذه السخافات؟! - كلهم يقولون ذلك، الناس..التلفاز..المجلات. - كل هذه ترهات. - أنت لا تهمك إلا نفسك، أما أنا فلا، لا يهمك إن أصابني مكروه.. ………………………………..- - ما بالك لا تجيب؟! - أنتِ لا ينفع معكِ الكلام أبداً، مهما فعلت لا تقدّرين. - قل لي شيئاً واحداً، شيئاً واحداً فقط فعلتهُ من أجلي. - يكفي أني تزوجتك.
شهقت بإنفعال وهي تضرب على صدرها: - وهل أنا من طلبتُ منك ذلك، أم أنت من جريت خلفي؟! وعدتني بالحياة اللائقة وها أنت تحنث بوعدك. - طيب..أنا كاذب، ماذا ستفعلين؟!
نظرت له بإشمئزاز وهي تقول بتهديد: - أنا لن أفعل شيئاً، بل أنت من ستفعل.. - ماذا تعنين؟! - تخبر زوجتك وتسير الأمور بيننا بشكل رسمي. - صه، قلتُ لكِ لا تكرري هذا الكلام مرةً أخرى.
أردفت دون أن تعبأ بصراخه: - وإن لم تخبرها أنت سأذهب إليها مباشرة..في قعر دارك والآن..
اسودّ وجهه فجأة، وبرزت عيناه فبدوتا أكثر جحوظاً، أمسكها من ذراعها بعنف وهو يلويها، صرخت بقوة، لكن ذلك لم يثنه، لازال مستمراً في الضغط وهو يصرّ على أسنانه: - لا ينقصني إلا واحدة مثلك لتفسد عليّ بيتي.
كانت تصرخ، بل تتحطم، كفتات الحلم، كفتات صورته......
- وليكن بعلمك، زواجي بك لن أعترف به أبداً، أتسمعين؟
أفلتها، فسقطت على الأرض والوجع قد أخذ منها كل مأخذ، صرت على نفسها و هي تحاول أن توقف نفسها من جديد ولكن بجسدٍ خائر، قالت بتقطع: - لديّ..لديّ نسخة من العقد، أم نسيت؟! - ماذا ستفعلين به، ستعطينه لوالدك في قبره أم لأخيك كي يستنشق على حروفه الكوكايين!!!!!
وقفت تماماً، وكلماته تقوضها، تجعلها تترنح، وخيوط العنكبوت تحيك خيوطها على الأنقاض، بوهن..بوهن شديد... - أنت حقير..منحط..أنت لا شئ.
تقدم منها وهو يطبق بيده الثقيلة على شعرها، ألقاها على الأرض من جديد ، سقطت هذه المرة على وجهها، لازال يشدُّ شعرها وهو يشرع في وضع قدمه على ظهرها، أختنق صوتها في حنجرتها، لم يعد بها قوة على الصراخ، كل ما تراه الآن يتماهى أمام عينيها، رمادياً كأطياف السراب.....
- أنا حقير أم أنتِ يا ............، أصلاً فتاة دنيئة مثلكِ لا حق لها بالكلام...
"وماذا عنك؟!!"
وبصق عليها وهو يرخي قبضته عن شعرها الأحمر، علقت شعيرات بيده، نفضها بقرف وهو يقول ببرود: - سأخرج، وسأعود بعد قليل، لا أريد أي شئ هنا يتعلق بكِ هنا..أتسمعين.
عادت محطمة، جسدها يضمخُ بالجراحات، النزف بداخلها أعمق من أي جرح، كلُّ الرضوض تهون، كلها عدا نزفُ الكرامة لا دواء له..
اغتسلت بالماء البارد لتسكّن أطرافاً مخدرة، جفاف هادر بالداخل، يثلّج كل التأوهات، أخذت تسرح شعرها دون شعور، ألم ذراعا يوقفها كل حين، لكنها لاتكل، اللاشعور يقودها في دوامات، دوامات بعيدة، لا نهاية لها ...
هناك رغبة قوية تتأرجح بالداخل، لتدمير كل شئ، للإنتقام، لبثّ سمومها في حنايا الزمن......
حقدٌ أسود يتغلل في دمها، يتوسد تلك الأجنح المتكسرة....
ماذا بعد هذا إلا الطوفان؟!!!!
توقفت حركة الفرشاة، ضغطت عليها لعلها تستجيب، كانت شعيرات قد تلبدت على شكل عقد صغيرة متشابكة كخطوط حياتها، قامت بتهالك، فتحت درج خزانتها، أخرجت مقصاً وبقلبٍ جامد قصتها، وتسربت بين يديها، تناثرت على أرضية الغرفة، تأملتها لثوانٍ ثم أكملت طريقها وهي تدوسُ عليها...
اتجهت للانترنت، هي الآن عاطلة، تعيش في كومة فراغ:
لا أب، لا أم، لا زوج، لا عمل....
كيف تعيش؟! لا بد أن تبحث عن عمل، وفي الشبكة العنكبوتية منافذ كبيرة وتتساقط الأموال من كل حدبٍ وندب، بدون صداع، بدون مشاكل، بدون زواج عرفي، مجرد ضغطة زر وينتهي كل شئ!!!
وتبقى الحواس ضائعة، تائهة في متاهات الغفلة.....
وحين نفقد الأمل، تتساقط كل الصروح، وتنكس الأعلام، وتطغى إفرازات الذات، لتضع في السراب قطرة، لكنها مالحة أيضاً!!!!
"كل هذا بسببك يا سلمان، أنت من أشعلتها، أشعلت تلك الصرخة بجوفي"
==================
امتطى حصانه الأسود، جرى بطول المزرعة بقوة لعل الغضب الذي يعتمل بداخله يتبخر، يتوارى مع ذرات الدخان المتخلف من حوافر الجواد...
توسطت الشمس كبد السماء، أشعتها تتخلل جسده، تهبه حرارة ودفء في أيام باردة، لاطعم لها...
لاح طيف أخيه يقترب، قبض لجام الجواد ليكبح انطلاقه، بات هذا الخيال كريهاً بالنسبة له، يتحاشى الاصطدام به، يُحيل لياليه إلى كوابيس...
دار على عقبيه، ليلج إلى "الاسطبل"، ناداه ذلك الطيف بصوتٍ جهوري، توقف وارتجل من جواده، مهما يكن لا يزال أخاه الكبير..
"- راشد". - نعم. ردّ بفتور. - والدي سأل عنك منذُ قليل، لا أحد يراك الآن في البيت. - أعتقد أني بلغتُ سن الرشد منذُ سنوات، لم أعد مراهقاً تخافون عليه. - أكل هذا العناد من أجلها؟ سأله بسخرية. - أعتقد أننا انتهينا من هذا الموضوع.
شدّ على ظهر جواده بتوتر وهو يحاول أن يكظم غيظه.
- انتظر أين تذهب؟! - سأعودُ أدراجي، الجو خانق هذا الصباح. ردّ بحدة. - أريدُ أن أقول شيئاً قبل أن تغير هذا الجو كما تقول!!!!
رفع "راشد" حاجبيه بنفاذ صبر، عاد لطريقته في العد بصمت، كم يغيظه، يُذهب بالبقية الباقية من صبره..
- لقد كلمتُ والدي في الموضوع. …………………………….- - سيذهب لزيارة عمي في الغد.
امتقع وجهه، أرخى جفنيه، الطعنات تلاحقه أينما كان، يبدو أنّ كوابيسه ستظل سرمدية، أيُّ جفنٍ سيرتضي له أن ينام..
تحرك قليلاً، عاد "خالد" ليناديه، أكمل... لم يعد جسدي يتأثر، لقد اعتاد على سهامك العمياء، أرجوك أكمل ولكن بسرعة، لصبري حدود....
- لم تقل لي مبروك!!!! - م..مبروك.
لكنّ "خالد" لم يكتفي بذلك، بل حضنه والأخير جامد كجذعٍ يابس، يوشك على السقوط، يوشك على التهالك، كلمة أخرى وينتهي كلُّ شئ.
- منك المال ومنها العيال. …………………..-
فغر "راشد" فاهه مشدوهاً دون أن يستوعب حرفاً، ابتسم "خالد" في وجهه . - لماذا تنظر لي هكذا كالأبله؟! - ماذا تقول؟ لم أفهم!!!!
"لا يريد أن يعقد أحلاماً أخرى...... أحلامنا هي من تغتالنا".
- أقول مبروك عليك ابنة عمك، فهمت الآن..
ابتسم "راشد"، انفرجت أساريره، غير مصدقٍ ما يسمعه: - أجاد أنت فيما تقول؟! - أكذبتُ عليك يوماً؟! بإمكانك أن تتأكد من والدي. عبس وقد تغضن جبينه، هم بأن ينصرف، لكنّ "راشد" لم يمهله، عاد ليحضنه بقوة، بإمتنان، بحب، بأخوة....
زال عبوسه، ربت على كتفيه وسارا معاً إلى المنزل، أحدهما يكادُ يطير فرحاً..لايكادُ يصدق، والآخر يشعر بضيقٍ غريب سببهُُ أخرى أعيت تفكيره، وجعلتها غارقاً هو الآخر في دوامة الحيرة!!!!
===============
- ستخرجين الليلة أيضاً؟!
لم تجب فوراً، كانت موجهة انتباهها الكلي للمرآة...
"- ليلى".. - آه، نعم، سأخرج، هل لديكِ مانع؟! - كل ليلة تخرجين تقريباً، ماذا سيقول الناس عنك.
التفتت إليها، وفرشاة الظلال بيدها، قالت ببرود: - وما شأننا بالناس، هم لا يعرفوننا ونحن لا نعرفهم، نحنُ لسنا من هنا، فلا حق لهم علينا..
وعادت لتثبت وضع الظلال على عينيها من جديد، ولكن بيدٍ بدأت بالإرتجاف...
تركت ما بيدها، وهي تنظر لأختها من خلال مرآتها، والأخيرة صامتة.
- ماذا؟! تريدين أن تُضيفي شيئاً آخر؟! أخرجي ما بجعبتك... - والدي لم يمر على وفاته 3 أشهر وأنتِ تتجملين!!
"أعرف هذا تماماً، أعدّ الأيام من بعده بالساعات والثوان، فمن بعده بدأت "ليلى" الأخرى وأنا قررت أن أصنع لها تقويم زمني جديد، لا يهم بالهجري..بالميلادي، أي شئ، أي شئ، لم يعد شئ يفرق بالنسبة لي، ثم إن طبيعة عملي تفرض عليّ ذلك قبل كل شئ!!!!"
- سأذهب إلى عرس، ماذا تريدين أن أفعل؟! أن أذهب بملابس سوداء؟! ردت بعصبية. - لا، بل أن تحترمي نفسكِ قليلاً و تحترمي مشاعر الأقربين.
فزت من مكانها، وقد لدغتها كلماتها، أصابتها بمقتل...
- أنا محترمة أكثر منك..أتفهمين؟! محترمة أكثر منكم جميعاً..كلكم...كلكم.
صاحت بإختناق، وقد بدأ الكحل في زوايا عينيها يمتزج مع سائل آخر شفاف، يتماهى معه في صورة ربما تتحول إلى رمادية..
سحبت "مريم" رواية "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ من على المنضدة دون أن ترد عليها، تصفحت الرواية حتى وصلت إلى الجزء الأخير...لا تملُّ قراءته أبداً..
يا تُرى ماذا كانت النهاية؟!
أرادت "ليلى" أن تقول شيئاً آخر، لكنها أحجمت، عضت على شفتيها بتوتر، أطبقت فمها نهائياً.... سارت لخزانة ملابسها وهي تتابع أختها المتوارية خلف قصتها، أخذت حقيبتها، باتت تحتفظ بها في الخزانة، فيها أشياء خطيرة..ممنوعات!!! وأهمها علب السجائر التي باتت لا تستغني عنها.....
ملأت الغرفة برائحة عطرها النفاث، وخرجت وهي ترمق أختها بتحدي....
رفعت "مريم" رأسها عن القصة، وضعتها على المنضدة من جديد، تنظر إلى حيثُ خرجت تلك الأخيرة وهي تهزُّ رأسها..
تنهدت بقوة وعلقت بصرها نحو السقف، تأملته، تأملت لون الطلاء المهترئ، لا تكاد تجزم ما كان لونه في الأساس!! أبيض أم بيج؟!
آلمتها رقبتها، أزاحت دثارها ونهضت من سريرها، لتتأكد ما إذا كان "أحمد" نائماً أم لا....
"كم هي ثقيلة هي المسؤولية ننوءُ بها وتنوءُ بنا......"
======================
كان صوت الموسيقى صاخباً، هزّ "خالد" رأسه بملل وهو يتصفح الملحق الرياضي الذي بيده، ألقاه على الأرض فتناثرت صفحاته، قطب جبينه وأخذ يتلمس جيب بنطاله، ليشعل لفافة تبغ، سرت في جسده رعشة، كان الجو بارداً....
انفتح الباب ودخل "فيصل"، وقد اختلطت في وجهه إمارات التعجب، قال بإستنكار: - ماذا تفعل هنا؟! الحفلة بالخارج وأنت حضرتك جالس هنا تدخن؟!!
لم يجب، أخذ يراقب السجارة وهي تحترق للمنتصف، لونها الأحمر المتوهج يثيره، يجذبه بشكل غريب، نفخ في سجارته بخفة ليبعد الرماد الذي علق بالوهج، ابتسم الآن ونظر لصديقه:
- هاا..ماذا قلت؟!
ردّ "فيصل" بغيظ من بروده: - لقد أعددتُ هذه الحفلة من أجلك. - ومن قال لك أني أريدُ حفلاً؟! ما المناسبة أصلاً؟! - المناسبة!! المناسبة هي حالة الاكتئاب الغارق فيها حتى أذنيك..
عاد ليبتسم بتهكم، وهو يشعر بالضيق، مرارة علقت بحنايا جوفه ، أحالت أيامه إلى علقم، كل ما يشعر به هو الفراغ، الفراغ الذي لا ينتهي.....
اقترب منه "فيصل"، لمس كتفه فانتبه له: - هيا قم معي. - لا أريد. - هيا، لا تكن طفلاً. - اهتماماتي ليست كاهتماماتك. - ماذا تقصد؟! - أتسمي هذه الحفلة علاجاً؟! - قم وانظر ماذا أحضرتُ الليلة..واووو، روعة يا "خالد"، روعة، صنف جديد سيعجبك!!! - أف، لا حول ولا قوة إلا بالله، كم مرة قلتُ لك لا أريد. - فقط شاهدها على الأقل، فاتنة، حورية، صدقني لن تندم، وستشكرني على هذه المفاجأة!!!
أخذ يلحُ عليه حتى نهض معه، سار بضيق ليرى تلك "الحورية" الإنسية كما يزعم!!!
كانت مديرةً ظهرها تراقب بإهتمام تصميم الشقة، وقد تناثر شعرها الأحمر الكثيف على كتفيها، بدت ساحرة في وقفتها تلك، دارت وكأنها أحست بأعين تحدقُ بها، تثمِّنها!!!!!
ابتسمت لهما بإمتهان، بادلها "فيصل" ابتسامة متشدقة، ثم عاد ليراقب تعابير وجه صديقه، ليعرف انطباعه عن تلك اللوحة المصبوغة أمامهما بإتقان محترف!!!!!
وهاله ما رآه، كانت أوداجه قد برزت بقوة، وقد تلاشت ألوان وجهه، بل دكنت!!! بدا وكأنهُ يصارع شيئاً ما، أن يصرخ مثلاً أو يقتل من أمامه!!!
- ما اسمك؟! سأل بصوتٍ هادر.
جفلت من صوته الغاضب، هذا ونحنُ لا زلنا في مرحلة التعارف!! - ليالي.."ليالي سوداء". ردت بدلع مصطنع. - ما اسمك بالكامل؟! - وماذا تريد به؟ سألت بضيق وهي تطالع فيصل.
التفت لهُ هذا الأخير وهو عاقدٌ حاجبيه: - إنها محقة، ما شأنك وشأن اسمها؟!
لم يرد عليه، عاد ليخاطبها بحدة من جديد: - ألا تسمعين، أجيبي... - أنا لم أحضر هنا للتحقيق.
نظرت لفيصل بغضب وهي تبحث عن حقيبتها التي ألقتها كيفما كان، لكنّ "خالد" لم يمهلها، انتشلها منها وأخذ يفتش فيها بعصبية، شهقت وهي تحاول منعه، و "فيصل" يراقب تصرفات صديقه الغريبة بذهول.
تناثرت محتويات الحقيبة على الأرض...لم يجد مبتغاه، عادت أوداجه لتنتفخ من جديد، تقدم منها والشرر يتطاير من عينيه: - ما اسم والدك اجيبي؟ - لا شأن لك بإسمي، أتفهم.. - والدك اسمه عبدالله ال.....؟! صح.
شهقت هذه المرة بصوتٍ أقوى، أردف: - ويعمل سائق سيارة أجرة، أم أقول أنهُ كااان!!
نظرت إليه بذهول، هي اختارت هذه المنطقة لأنها بعيدة عن مدينتهم، كي لا يعرفها أحد، من هذا؟! وكيف عرفها!! إنها لا تذكر أن رأت وجههُ من قبل، أما هو فلم ينسى، لم ينسى وجهها رغم كل المساحيق التي تضعها، أليست أختها؟! كل ما يتعلق بها يظل محفوراً في عقله و !!!!!!!
حاولت أن تتمالك نفسها، فأن تؤكد له ما يقول، فيه نهايتها المؤكدة، نهاية أخوتها، لا بأس أن تضيع هي فلا أمل يُرجى منها، أما "مريم" و"أحمد" فالمستقبل أمامهما، لا زالوا على أعتاب الحياة.. هكذا رددت في نفسها، وهي تبلع ريقها من الخوف، إنها بأشد الحاجة للكتمان، بأشد الحاجة إليه....
ردت ببرود: - يبدو أن صديقك الذي أحضرتني إليه أصابه الجنون، وأنا لا أتعامل مع مجانين. - أنا المجنون أم أنتِ أيتها الساقطة؟!
صفعتها كلمته "ساقطة"، أرادت أن تتماسك، لكنّ اهتزاز جسدها كشفها، غادر "خالد" المكان بغضب وعاد ليلتقط مفاتيح سيارته لينصرف، لحقه "فيصل" وهو يحاول أن يفهم الأمر برمته...
- إنها هي هي، هي أختها أجزمُ بذلك. - أختُ من؟! - أخت تلك الفتاة التي ...........
صمت دون أن يكمل، هزهُ الاكتشاف الجديد، ألم يكن متشاءماً من الأعداد الفردية، ألم يكن يبحث مازحاً عن لقب رابع يُلصقه بها..ها هو يجده: أختها ساقطة!!!! لقب بديع لا؟!! لقب طغى على كل الألقاب، كسر ذلك الأمل نهائياً، كان متردداً في أن يتخذ تلك الخطوة التي أرقته، وجاء هذا الاكتشاف ليُمحي كل ذرة أمل باقية...
التفت بيأس إلى صديقه، يُخاطبه بلسان حاله: - وتريدني بعد كل هذا أن أتزوجها؟!
====================
- لحظة، انتظري لم أكمل نقل بقية المحاضرات. - لا بأس أنقليها مرةً أخرى. - نسيتي؟! بعد غدً سأقدم الامتحان الذي فاتني.
نظرت "أمل" لساعتها مقطبةً، دقت بأصبعها على فمها، ثم مطت شفتيها وهي تقول: - أنا تأخرت الآن، "راشد" لم يتوقف عن الاتصال بي، يقول لديه مفاجأة في الطريق.... …………………………….- - اسمعي ما رأيك أن تأتي هذا المساء لبيتنا، سأشرح لكِ أيضاً. قالتها بإغراء. - ههههههه، تشرحين لي؟! أنتِ لا تركزين أصلاً في المحاضرات... - ماذا تعنين؟! سألت بغضب زائف. - لا شئ. - ها ماذا قلتِ؟
لم تجب، كانت مترددة، حائرة، ولكن مستقبلها الأكاديمي في المحك، الشهادة تأتي أولاً قبل كل شئ.... - طيب، سآتي في الساعة الثامنة أو ربما في السابعة . - سأنتظرك، مع السلامة. - مع السلامة.
تابعتها إلى أن توارى ظلها نهائياً، حملت كتبها وسارت هي الأخرى إلى موقف الباصات...
وصلت للمنزل، كانت قابعة مع أخيها يتناولان الغذاء، ألقت التحية وهي ترمق أختها ببرود، كانت تأكل بلا شهية، تحرك يدها في الطبق دون هدف.....
- لديّ طلب، ممكن؟! - نعم.. - أ بإمكانك أن تبقي الليلة في المنزل؟! - ل...لماذا؟ ماذا حدث؟! من قال؟ ماذا.. (أخذت تسأل وخوف يرتسم على وجهها.(
تطلعت لها "مريم" بإستغراب، حتى "أحمد" رفع حاجبيه ويديه عن الأكل..
تمالكت نفسها وهي تزدرد ريقها: - أقصد ما السبب؟! - سأذهب هذا المساء لبيت "أمل"، لديّ فروض.. - آه. (ردت بهمس.(
ثم تنهدت وهي تسترجع صوتها المعهود: - لا بأس.
"ليلة واحدة لن تفرق في شئ"!!! وابتسمت بتهكم.....
===============
الساعة الآن السابعة مساءاً بتوقيت الإمارات، سارت الهوينى تتأمل نجوم السماء حيناً وتصدُّ للأرض حيناً آخر كي لا تتعثر في مشيتها...
الدنيا في هذا الوقت أمان، تسمع أصوات الأطفال الفارين من ذويهم ليلعبوا لعبتهم المفضلة "الصيدة" ومن أجمل من المساء ليتخذوه غطاءاً!!
وصلت للمزرعة، حينها أسرعت في سيرها، هناك كانت أول ذكرى لقاءها به، محفورة في ذاكرتها، ويا لها من ذكرى!!
دقت باب الجرس، انتظرت كثيراً، أخذت تتطلع إلى الأوراق الشاغرة، فاتها الكثير في الأيام الماضية...
كان واقفاً بتردد، همّ بالكلام، بقولِ شئٍ آخر ربما لكنهُ أحجم، لا زال ملتصقاً بالباب، وفرجة الباب ضيقة لا تسمح لها بالولوج بالرغم من نحافتها.
تطلعت إليه بضيق وهي تتأفف لعلهُ يبتعد، مرت دقيقتان بطيئتان ثم ابتعد.
أشار لها بأن تدخل غرفة الجلوس كي ينادي أخته، جلست وهي تُعيد ترتيب أوراقها، تضع علامات على الدروس الناقصة، لم تشعر بألم في معدتها ودقات كدقّ المسمار في صدرها، قلبها يدق بقوة كطبول مجنونة...
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، تلت سورة الفاتحة في سرها"
ثم أخذت شهيقاً بطيئاً وطويلاً، ألهذه الدرجة رؤيته توترها، ولم تأخرت هذه الأمل أيضاً؟!!
وانفتح الباب، لم تأتِ هي بل أطلّ هو، قال بصوت هادئ: "- أمل" ليست هنا، لقد ذهبوا جميعهم إلى "أبو ظبي" لخطبة ابنة عمي لأخي راشد...
لم تعلق، لم لم تخبرني!! نهضت من مكانها وهي تلمُّ أوراقها، وتوجهت إلى الباب. - لا زال الوقت مبكراً على الخروج..
فتحت عينيها بدهشة وهي تحاول أن تتمالك نفسها: - لو سمحت أريد أن أخرج. - طلبك مرفوض. - كنت تعلم بعدم وجود أحد وتركتني أدخل؟!! صاحت فيه بغضب.
عبس في وجهها ولم يجب، أغلق باب الغرفة خلفه وتقدم ناحيتها، تراجعت إلى الوراء وهي تصرخ: - لاتتقدم، إذا اقتربت مني سأصرخ.
ضحك بجفاء دون أن يتراجع، ردّ بتشدق: - اصرخي كما يحلو لكِ، فلا يوجد أحد هنا إلا الخدم وهم فوق ينظفون الشقة للعروس الجديدة.
وتوقف حينها عن الضحك وهو يتأملها ببطء من رأسها إلى أخمص قدميها، ارتجفت من نظرته: - أنا..أنا لا أفهم شيئاً.
ردّ بجدية: - بل تفهمين.
طفرت الدموع من عينيها، وهي تشعر بزلزال يهزُّ كيانها من الأعماق، راقبها بصمت وهي تضم الأوراق إلى صدرها بقوة حتى تجعدت، وفمها يرتعش وقد احتقن وجهها فبات لونهُ أحمراً قانياً كالدم...
خاطبها بقسوة من فوق كتفيه: - لا تنظري إليَّ هكذا كأني مجرم مغتصب، حددي لي السعر وسأنقدك إياه فوراً..
فغرت فاهها طويلاً وهي تحملق فيه دون تصديق، تلاشت كل الألوان من وجهها وعجزت عن النطق، ماذا يقول هذا الرجل؟!!!
50000 -درهم تكفي؟!
عادت من ذهولها، تساقطت الأوراق من يديها ولم تشعر بنفسها إلاّ وهي تنقض عليه، تضربه على صدره بكل ما أوتيت من قوة وهي تصيح: - أيها الحقير، الحيوان، الدنئ، أيها النذل الجبان...أتحسبني عاهرة..
لم يتحرك، ولم يصد هجماتها عليه، كان واقفاً كالصخر يتلقى ضرباتها ولعناتها الأبدية وهي تلهث من شدة التعب: - هل هدأتي الآن؟!
لازالت شحنات الغضب تتصاعد في جوفها، تكاد تخنقنها، كيف تجرأ وقال لي هذا الكلام!!!! ماذا يخالني هذا الحقير..
صدرها يعلو و يهبط وصدى كلماته تكتمُ أنفاسها، تمنعها حتى من الصراخ، أطلقت دموعها قبل أن تنفجر، حولت وجهها عنه وراحت تلم أوراقها بيد مرتجفة وبعينين لا تريان:
- ماذا تفعلين، لم ننهي اتفاقنا بعد!!!
شهقت من بين دموعها وألقت بنفسها على الأوراق تبللها وتنشج بصوتٍ متقطع كنشيج الميازيب في مواسم المطر، أيُّ ذلٍ أعيشهُ أنا!!!
سألها وبكل وقاحة الدنيا: - لم كل هذا الصياح..ماذا تتوقعين أن يحدث لفتاة مثلك؟!
رنت كلمة "مثلك" في ذهنها بوقعٍ غريب لم تستسغه أذناها، رفعت رأسها من على الأوراق، تنظرُ إليه وهو لا يكاد يبين، سألتهُ بصوتٍ متكسر لا تتضح حروفه: - م...ث..ل..ي!! مثلي...كيف؟! ل..لا..أفهم.
جثا بجانبها، لم تجفل، كان همها أن تفهم، أن يجيب على سؤالها، ردّ بثبات دون أن يبعد ناظريه: - مثلك في وضعها أبٌ متوفٍ، أخ مدمن يستخدم الحقن في الشوارع بالقرب من النفايات كما تعيش الكلاب الضالة، وأخت ساقطة تبيعُ نفسها في شقق العزاب!!!
"ساقطة، ساقطة، ساقطة" صفعته على وجهه بقوة وبكل الكره والغضب الذي أعمى عينيها، صاحت فيه: - ما الساقط إلا أنت..
أمسكها من معصمها بقوة حتى كاد أن يسحقه، أكمل وبكل دناءة: - أجل، ساقطة..البارحة كنتُ في شقة صديقٍ لي، باعت نفسها عليه، ثم أتت تعرض نفسها علي بكل وقاحة لا تتقنها إلا الساقطات..
حاولت أن تسحب يدها لتصفعه مرةً أخرى، لكنهُ كان أسرع منها، صرخت من بين دموعها: - أنت تكذب..تكذب، أختي لا تفعل هكذا، أنت تكذب..أنت حيوان، نذل، حقير...
وانتابتها نوبة من البكاء الهستيري، لم يرحمها ولم يرحم دموعها، هزها من يدها لتنظر إليه من جديد: - لا تصدقيني؟!! إذا شئتِ أخذتك إلى شقة صديقي الآن، لا بد أنها هناك.. ………….- - أتعرفين لم نبذتها، لأنني لا أحب الأشياء المستعملة، الأشياء الجديدة هي دوماً من تستهويني، مثلك تماماً.. ………….- - ثم أعتقد أنّ الجمع بين الأختين حرام أيضاً!!!!!!!
كفّت عن الصياح وقلبها يكاد أن ينخلع، أخذتُ تأن بصوتٍ منخفض، تخاف أن تحجب دموعها عيناها فلا ترى ما يودُّ فعله، لا زال ممسكاً بيدها المسحوقة، برقت عيناه واشتدَّ سوادهما، كانت يتنفس بسرعة، جفلت من شكله المتوفز..
وضعت يدها الأخرى على فمها لتمنع صرختها، توسلت إليه برجاء، بصوتٍ مبحوح من كثرة الصياح: - أرجوك دعني أذهب..أرجوك.
ترك يدها، وقام من جلسته وهو يدير وجهه بعيداً عنها: - آسف، أنا لا أملك الخيار.
أنهضت نفسها بتثاقل، كانت تشعر بالإعياء، بالجهد...الضغط الإنفعالي الذي تعرضت له يفوق طاقتها، يفوق احتمالها، يفوق كل الآلام التي تعرضت لها منذُ ولادتها!!!
رفقاً بالقوارير..هكذا وصى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وانظروا ماذا فعلوا بوصية رسولهم....
يريدون تحطيم تلك القوارير، تهشيمها، تفتيتها، لكأنها خُلقت من أجلهم، من أجل إرضاء غرائزهم..بئساً لهم وتعساً لنا.....
نظرت إليه بتحدي، بشموخ لا قرار له، وهي تمسح وجهها المبلل: - أو تظن أني سأسلّم نفسي لك، أو أجبن عن الدفاع عنها، كم أنت واثق من نفسك كثيراً، تعتقد أنّ كلامك سيثبطني، سيردع مبادئي، سيزعزع إيماني أو ثوابت ديني، لا تعرف كم زادني قوة لأواجه الحقيرين كلهم وأولهم أنت..
تطلع إليها بسخرية وابتسامة قاسية ترتسمُ على شفتيه: - وبماذا ستدافعين عن نفسك؟! بجسدكِ النحيل هذا!!!
كم كرهته تلك اللحظة، كرهت كلامه، صوته، كل شئ فيه....
سارت خطوتين، لكنهُ أمسكها، حاولت أن تتملص منه، سحب حجابها، هالتها هذه الخطوة وجمدت في مكانها..
شعرها لازال رطباً، كان قصيراً فاحم السواد، التصق بعنقها وتناثرت خصلاته المبللة على جبينها...
هذه هي المرة الأولى التي يراها أجنبي دون حجاب، يراها حاسرة، القوارير انتهكت حُرمتها، ماذا يبقى بعد ذلك؟؟!
مشوار الجسد يبدأ بخطوة!!
نظرت إلى حجابها الذي كان ممسكاً به، تبكي عليه، تبكي على هتك سترها..
"يا رب أنا لم أقصد أن أُظهر شعري يوماً لغريب..كلُّ شعرةٍ شيطانة وكلُّ شيطانٍ في النار، يا رب لم أقصد ذلك، فاغفر لي....."
دمعت عيناها بحرارة كما لم تدمع يوماً في حياتها......
ألن ينتهي هذا اليوم أبداً؟!!
اقترب منها، تراجعت إلى الوراء بضعف، استندت على الجدار ترتجف كورقة خريفية توشك على السقوط، عن الخروج عن جذعها الذي طالما انتمت إليه...
أغمضت عينيها بقوة، تعصرهما عصراً، لم تعد تراه وسيماً، تجسدت فيه كل قباحة الدنيا، كلها دون استثناء...
أمسك خصرها، يداه كالنار تحرقُ جسدها، وضعت باطن كفها على فمها لتمنع لوعةً فتت كبدها تلك اللحظة، أرسل جسدها اهتزازات عنيفة تستنكر..
- أرجوك.. (كررت بصوتها المبحوح) أرجوك.
قرب وجهه منها، أنفاسه الساخنة تلفحُ وجهها، همس في أذنها بصوتٍ أجش: - أرجوك ماذا؟! أرجوك أكمل؟!!!
وضعت يديها على أذنيها وهي تصرخ: - ابتعد عنيييييييييي. - آسف يا صغيرتي.
هزت رأسها وقربه يقطعها، يحيلها إلى هشيم، صاحت بين شهقاتها: - أريد أن أعود للبيت..أرجوك لالالالالالالالالالا.... - دموعك لن توقفني هذه المرة..أتسمعين؟! - أمي..أنا..قالت...و .... (كانت تهذي دون أن تعي شيئاً).
هزها من كتفيها لتنتبه إليه: - ماذا تقولين؟!
أخذت تأن دون أن تجيب، تنظر بعجز إلى يديه اللتين استقرتا على كتفيها، كطوق، كقيد يجرها لا تدري إلى أين..
فهم نظرتها، صاح فيها بغضب وكأنهُ يخاطب نفسه، يُريد أن يحسم الصراع بداخله: - من الأحمق الذي يترك فرصةً كهذه؟! أخبريني!!!
عادت لتضع أصبعها المرتجف بجنون على شفتيها كما هي عادتها في القسم، رددت بصوت مبحوح: - أقسم..أقسم لك..والله..والله العظيم لن أعود إلى هنا..لن أُريك وجهي..فقط دعني أذهب.
أبعد يديه ببطء، احتواها بعينيه وهو يقول بتشفٍ وبرود: - تذكرين ذلك اليوم، أعطيتك خياراً آخر لكنكِ رفضته. …………………..-
صاح بجفاف: - أنا مريض..ألم تقولي ذلك؟! والمثل يقول: داوي نفسك بالتي هي الداءُ!!!
حركت يديها المنكمشتين في الهواء بذعر وهي تنفي: - أنا لم أقصد..لم أقصد شيئاً، سامحني.. - تأخرتِ كثيراً...
ترى صورتها المنعكسة في عينيه، تهتز كذُبالة شموع الأمس، حين تمر عليها هبات النسيم، ويخفت الضوء شيئاً فشيئاً ولا يتبقى إلا الظلام، الظلام الأعمى فقط...
لفت وجهها للجدار تماماً وأجهشت بالبكاء من جديد، تطلع لها بشفقة وهو يراقب اهتزازها...
" أنا لا أملك الخيار، لا بد أن أمسح صورتك من ذهني، يجب...هذا هو الحل الأخير وبعدها ينتهي كل شئ!!!!"
قالت من بين شهقاتها، بإستعطاف، بذلٍ مرير: - تريدني أن أبتعد عن أختك، سأفعل، فقط..أنا..أتوسل إليك.. - أنتِ لا تفهمين شيئاً..لا تفهمين.
وضرب بقبضته على الحائط بقوة، أجفلت و هوت عند قدميه وهي تنتفض...
كان يريد أن يُطلق كل انفعالاته الهوجاء، يترك لها العنان، صرخ بقوة ليُغطي على الصوت الصغير بداخله، ذلك الذي لا يفتأ أن يحتج على كل شئ وهو يحاول إخراسه للأبد: - كفي عن البكااء!!
تطلعت إليه من علو، عيناها الدامعتان تتوسلانه، ترجوانه بصمت، تطلبان منه الرحمة، الرحمة فقط....
أدار وجهه ناحية الغرب، يلمُّ قبضته بتوتر..
"لا فائدة..لا فائدة!!"
نكست رأسها، دموعها تتساقط على قدميه بيأس بائسٍ مثلها...
دموعها الحارة أيقظته من سرحانه، تطلع لها وآلاف المشاعر تتقاذف في صدره، لا يستطيع أن يحللها، عاجز عن فهمها تلك اللحظة...
السكون بينهما قد خيم وكأنّ على رؤوسهم الطير، لازال يتأملها وهي مطرقة، لو كان بيدها لدفنت نفسها الآن في الأرض، أسفل سافلين!!!
قالت له بصوتٍ خافت، كأنهُ قادم من بعيد: - أحمد..أحمد أخي.. - ماذا به؟ - من سيبقى له؟! - أنتِ.. - كلا....
وعادت لصراخها الهستيري و هي تهزُّ رأسها: - أنا حين أخرج من هنا لن أعود إلى هناك أبداً..أبداً.. - ماذا تعنين؟! سألها بخوف.
نظرت إلى الجانب الآخر وهي تضمُّ يديها بقوة إلى صدرها وفمها يتجعد من جديد: - أريدهُ أن يربى نظيفاً، لا أريده أن يعيش مع القذارة بعد اليوم...
نظر لها بصدمة يحاول أن يستشف مغزى كلامها!!!
صدرها يعلو ويهبط في حركات متتالية، نكست رأسها أكثر وهي ترتعش، تنتظر مصيرها، ومصيرها بيد جلادها!!
تذكرت الدجاجة التي اصطادتها مع أخيها "أحمد" ذلك اليوم البعيد القريب كالأمس، وجاء اليوم فغدت هي تلك الدجاجة، تلتفت يميناً وشمالاً، تحاول أن تجد لها مفراً ولكن هيهات...
رفعت رأسها لجلادها تلك اللحظة، أتُراه سيقضي على حياتها؟!!
وكأنها ارتاعت من جلستها في هذا المكان المشؤوم، قفزت من مكانها وكأن أفعى لسعتها، وبالرغم من الثقل الذي برجلها إلا أنها انطلقت كالمجنونة وهي تلهث، تلتفت خلفها كل حين وكأنّ شبحاً يجري خلفها!!!!!!!!!
==============
مريم يا دمعةً في الخد...سيري... برعاية الرب سيري....
لم أشأ ولم تشأ حروفي.... لكنها قسوة الأيام..قسوة الزمن الغادر...
زمن حين لا أم ولا أب و لا أحد..... زمن حين تتراقص الفراشات حول فوهة البركان دون هُدى....
آه، ما أقسى الزمن!!!
أعلم أنّ اعتذاري لن يكفيك ولكن كلي أمل أن تسامحيني يوماً.....
في السماء نجوم تهوي... وفي الأرض زهور تتفتح!!!!
ولاندري ماذا يُخفي الليل في جلبابه...
مداد حبري قارب على النفاد.... وضلالات الحب كادت تصل.... وللقصة بقية فانتظروها......
كان ما شئناهُ وانتهينا.... فهل أرحنا خافقاً وعينا؟!
(20) قدماها لازالتا تتراقصان من الخوف، تنفست بقوة وهي تستند بضعف على الباب، غطت وجهها بيدها اليسرى لعلها تُبعد صورته، لمسته، همسته التي لا تفتأ تدوي في أذنيها بطنين مجنون..
أكملت وهي تجر نفسها لعلها تصل إلى غرفتها، توقفت هنيهة وغصة في الداخل تمزقها تمزيقاً، أحنت رأسها وهي تمسك بعنقها وتعود لتقبض على صدغها ورغبة بالغثيان تعتريها كل حين....
رنت ضحكة ماجنة في الغرفة المقابلة، اعتدلت في وقفتها تصيغ السمع، كل ما تراه يبدو هلامياً، غير حقيقي، هل أنا أنا وهل نحنُ نحن؟!!
"في أي عالمٍ نعيش..أخبروني؟!!"
فتحت الباب دون أن تطرقه، كانت مستلقية وهي تعبث بخصلةٍ ناشزة من شعرها ويدها الأخرى ممسكة بالجوال..
رفعت "ليلى" وجهها للقادمة وكأنها آتية من سفرٍ بعيد، تراتيل الرحيل أزفت، رسمت سطورها في حنايا الوجه النحيل، في العينين ذبول وعتاب، عتاب طويل بطول الليل، بطول أروقة العذاب ومتاهات الزمن....
أخ ما أقسى الزمن.....
أغلقت "ليلى" هاتفها، وهي تنظر بخوف وقلق لأختها، لازالت تنظر إليها بألم، أما تراه الآن دموع تهطل من عينيها السوداوين؟!!!
اقتربت منها والأخيرة تصارع لتقف بإعتدال وقدميها تخوناها، لا تفتأ أن تنثني والرغبة بالتقيؤ تتزايد كألسنة اللهب، لتحرق كل شئ، كل شئ.....
لمست "ليلى" كتفها فأجفلت، رفعت رأسها وهي تنظر لها بشزر، أبعدت يدها عنها وهي تصرخ بصوتٍ مبحوح عُيّل من كثرة الصراخ: - لا تلمسيني..
رفعت "ليلى" حاجبيها دهشةً، أكملت ويدها تقبض على عنقها من جديد: - قذرة مثلك تصيبني بالنجاسة. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!-
ارتفع صدرها بقوة مرةً واحدة وتوقف، آلاف الكلمات تتصاعد في جوفها، لاتعرف ما تختار والأخيرة تنظر لها دون أن تستوعب شيئاً.
- لم أتوقعك بهذه الحقارة أبداً، أيتها...أيتها ال...
واحتقن وجهها من جديد، شدت حجابها بعنف وألقته، صدت لأختها التي كانت تتراجع إلى الوراء.....
كان وجهها ممتقعاً هي الأخرى، قالت بإنكسار وأطياف الحزن تتجمع من جديد لتخدش ما بقى في الصورة من لمعان: - لماذا؟! لماذا؟! لماذا قولي لي...أجيبيني لماذا؟! أنتِ أنت يا بنت أمي أنتِ!!
ولطمت وجهها لعلها تفيق من هذا الكابوس، لعلها كانت تحلم وكل ما حدث هو من وحي الخيال فقط، فقط يا ليت.
بدأت حبات العقد تنفرط، تدحرجت إلى آخر بقعة، هناك في الزاوية....
هزت رأسها وهي تردد بهمس ذاهل وتُحرك أصابعها النحيلة في الهواء، وضعتهم على فمها المرتعش وهي تكررها بهمس دون تصديق، نظرت "للساقطة" وكأن مرآها أفاقها من ذهولها، تغضن وجهها وهي تنظر لها بقرف: - كل شئ توقعته منكِ إلا هذا إلا هذا، لم لا تتكلمين ها؟! أم أن السفالة عقدت لسانك أيتها الفاسدة الحقيرة، أنت عار، كومة عار... ……………………- - منذُ متى أجيبي؟! منذُ متى؟! لم تحترمي حتى أبي في قبره، لا سامحكِ الله لا سامحكِ لا سامحكِ الله.
ونشجت دون توقف كسيلٍ فوار ولكن في بركةٍ آسنة لا قرار لها...
……………………..- - ماذا فعلتِ بنا أنا وأحمد..سودتِ وجوهنا، ألم يكفنا "محمد" لتكملي أنتِ؟؟!
الأظافر تخربش ذلك الجيد دون شعور، تسللت خطوط وردية بان سناها على صفحة الجلد الأبيض، تقدمت منها "ليلى" بوجل لتوقف عويلها، وما أن أمسكت يدها حتى أتحفتها بصفعة قوية على وجهها أودعت فيها تلك اللحظات، تلك الكلمات، ذلك الذل الذي عاشته بسببه وسببها..
تردد صدى الصفعة في أرجاء الحجرة الخالية من عروشها، وضعت باطن كفها على خدها وهي منكسة رأسها وعضلة صغيرة أسفل فمها تنبض بوضوح....
تطلعت "مريم" إلى يدها التي تهتز بتعجب وكأنها انتبهت أنها الصغرى وتلك أختها الكبرى، صدت لليلى، كانت تشهق بصوتٍ كتوم، لكن قلبها أقسى من أن يتأثر بدموعها..
ماذا بعد ذلك؟! لاشئ يهم..لاشئ...
- تبكين؟! الآن تبكين بعد فعلتك السوداء، مثلك لا يبكي، مثلكِ إن كان فيه ذرة دم، ذرة حياء باقية، يدفن نفسه..
تصاعدت شهقاتها هذه المرة بقوة، بصوتٍ مسموع، لم تبالي بها، لو بيدها لقتلتها، لاقتلعت وجودها للأبد، ألم تكن قاب قوسين أو أدنى من الهلاك بسببها، كان سيدمرها وتضيع في زمن لا يرحم، في زمن يوصد بابه للأبرياء ويفتح ذراعيه للقذرين أمثال تلك ال...
وعادت لها الذكرى المشؤومة، الصور لاتلبث أن تتراقص أمام عينيها، وطيفه الكريه يحيط بها، يُضيق الخناق عليها، لا تصدق أنهُ تركها، حياتها كانت ستنقلب على عقبيها، ستتدمر، كيف أحبته يوماً، ذلك الحقير..ّذلك القذر وهذه القذرة يناسبان بعضهما تماماً!!!!
تطلعت لها بإشمئزاز وكأنها تقيم بعوضة، لا أكثر أو أقل....
رفعت رأسها وهي تجهش بالبكاء، تنظر إليها بذنب، كتلميذة صغيرة تنتظر الرأفة بالحكم عليها، الرأفة فقط لا إلغاء القضاء..
انتحبت "ليلى" وهي تصرخ: - أرجوكِ لا تقوليها، لا تقوليها، أقبلها من الكل إلا منكِ. - ساقطة ساقطة ساقطة.
كررتها وهي تصرخ بلارحمة، كانت تتقرح من الداخل، وخزات تنشبُ في صدرها، تدمي ذلك القلب الذي توسّد بين الضلوع...
تهاوت "ليلى" وهي تضرب على ركبتيها، وقد فرشت لها من الأرض دثاراً تنوح عليه، تنوح على ما آلت إليه حياتها، في السر نحنُ أفضل بكثير، لكن الأيام لا تخبئ أحداً، لا تخبئ أحداً أبداً....
- ماذا كان ينقصك حتى تسلكي هذا الطريق، أفهميني يا بنت أمي أفهميني؟!
قالت قليلاً وبكت كثيراً، تصمت لتمسح وجهها الذي أغرقه الدموع، وتلك الواقفة تسمع ولا تسمع....
الوحدة، الفقر، والحب..ثلاثي البؤس!!!
كانت تردد اسم "ٍسلمان" بذهول السكران، وكأنهُ السبب في كل ما حدث!! وتلك تحدجها بنظرات تتماوج بين الرثاء والكره!! والأخيرة تتمسح بأقدامها تطلب منها أن تفهمها، أن تقدر أسبابها، و"مريم" جامدة كصخرة..
لا تنحتي، ما عاد يُجدي النحت....
- كل هذا لا يشفع لكِ أبداً، أبداً، أتعرفين لماذا؟؟
وارتفع صوت صياحها ليقطع سكون الفضاء، تأملتها "مريم" لدقائق ثم سحبت حقيبتها المُلقاة، ودثارها وشرعت لتخرج، انتهبت "ليلى" لحركتها، رفعت رأسها بذل وبعينين ذاويتين سألت: - أين ستذهبين؟ - إلى جهنم، في أي مكان لا يحوي القذرين مثلك.
وصفقت الباب خلفها، ارتمت وجسدها يهتز بعنف، يرتج مع شهقاتها التي تلجم أنفاسها....
الليل طويل، وقد مدّ دثاره ليغطي على الجميع، ليُغلف خفايا الأنفس، يحجبها عن الآخرين، يحجب سوءاتهم، ولكن الأيام تأبى ذلك، لأنها ببساطة ترفض أن تخبئ أحداً، وقد حان الوقت لإقصاء كل شئ، كل شئ ما عدا الحقيقة!!!!!
=================
يمشي ببطء ويتوقف ليمسك سياج المزرعة بقوة لكأنهُ يودّ تحطيمه، أبعد ذراعيه وضمهما إلى صدره، ذهنه شارد بالراحلة منذُ قليل، حين تركها توارى في المزرعة، راقبها وهي تتلفت خلفها برعب كل حين، أدمتهُ تلك الحركة، وحين سقطت على الأرض هوى قلبه إلى الأعماق، كاد أن يهرع لها لينهضها لكنهُ أمسك نفسه..
بقت على هذه الحالة لفترة طويلة خالها دهراً، كانت تلم نفسها بعجز وهي تغطي وجهها بكفيها وتبكي...
ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!
نهضت، ارتحلت مع جُنة الليل، تلاشى خيالها النحيل بين عينيه، بدا كنقطة بعيدة تنبضُ من بعيد....
نظر إلى السماء وهو يتنهد....
كانت قريبة منك يا "خالد" قريبة إلى حد الجنون!! أمسكتها بيديك هاتين، كادت تتحطم عظامها الرقيقة بقبضتك، شممت رائحة شعرها، شعرها كان النقطة القاضية، كاد يقصمك، وتضيع هي إلى الأبد، إلى الأبد..
ماذا كنت ستفعل يا "خالد"، ماذا كنت ستفعل؟!
تأمل يديه، لازال يشعر بجسدها بين راحتيه، كانت ترتجف وهي تحاول أن تتملص منك، بكت وتوسلت لكن ذلك لم يزدك إلا إصراراً، نشوة الصياد في أن يرى فريسته تتعذب أمام عينيه...
لم تركتها إذن؟! أجب نفسك بصدق....
ربما لأنها ذكرت اسم أخيها "أحمد"، لا تنكر أنك تحبه، أليس يحمل من روحها الشئ الكثير، يحمل براءتها وشقاوتها، في عينيه الصغيرتين تتجسد صورتها، صورتها التي باتت لا تفارق مخيلتك يا "خالد" كيف ستنتزعها الآن، كيف؟!!
كلا كلا ليس هذا فقط، بل لأنها قالت شيئاً آخر، قالت أنها لن تعود، يا تُرى ماذا كانت تقصد؟! لم أفهمها تلك اللحظة، لكنني شعرت بخوفٍ فظيع، خفتُ أن أفقدها، خفت أن تضيع، وأنت ماذا كنت ستفعل بها غير ذلك؟!
كل هذا بسببك يا "فيصل" أنت ومفاتيحك اللعينة، أنت من أدخلت أفكارك القذرة في ذهني، جعلتني أخالها لقمة سائغة مثل أختها ربما..
ولكن هل يرقى الثرى مع الثُريا؟!!
لا أبداً....
يا تُرى ماذا تفعل الآن..كيف هي حالتها؟!!
عاد ليتأمل يديه من جديد، ضمها إلى صدره بقوة وصورتها تتجمع بين عينيه من جديد....
لم أسمع، فقد همس للنجوم بالإجابة!! وأين نحنُ وأين النجوم....
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه ودلف للبيت، مرّ على غرفة الجلوس، توقف أمام الباب برهة لكأنه خشى أن يفتحه فيلوح له طيفها الذي عذبه، حينها لن يتركها أبداً، لن يتركها!!!!
أكمل طريقه لغرفته لعله يجد في عينيه طريقاً إلى النوم...
ماذا كنت ستفعل يا "خالد" ماذا كنت ستفعل؟!!
=============
قلوبٌ تتلوى، والعين تأبى أن يفارقها السُهاد..... بين الضلوع أُمنية وفي المحجرين دمعة.... آهات متقطعة، متكسرة، تجتاح أروقة أبطالنا... تنثر الشوك والورود في كل مكان.... مريم..خالد...ليلى... والبقية تأتي.....
يا ربُّ أنت الراحم الغفورُ وما جرى في جبعتي محفورُ كان الفراقُ عاصفاً وخافقي مولاي في عصف النوى عصفورُ فاجعل جميل الصبر لي مرافقاً كي لا يضل خطوتي النفورُ
فزت من رقادها، وعرقٌ يتصفد بجبينها، كانت تتنفس بسرعة، وجهها مبلل، ودموعٌ مالحة تجد سبيلاً إلى فمها المرتعش..
أخذت تنتفض، وحرارة مشبوبة تلفُ جسدها، ضمت ركبتيها إلى صدرها وهي تأن بصوت متقطع...
نامت البارحة على الأرض، في حجرة والدها التي أحتلها "أحمد"، والأخير لازال في سباتٍ عميق، لم يسمع أناتها، دموعها، شهقاتها التي لم تتوقف طيلة المساء...
غرزت أصابعها في ثنايا شعرها بقوة، لعلها توقف الطبول المجنونة التي لا تلبث أن تدق رأسها......
صداع، صداع قوي يطفحُ بخلاياها، لا يترك لها المجال لتلتقط أنفاسها، يدوي كل حين....
انسابت الدموع برقة على جيدها، أثارت ملوحتها تلك الجروح التي خدشت بها نفسها، مسحتها بيدها، رفعت رأسها لأعلى قليلاً، تطالع المكان بعينيها المتقرحتين....
لاحت لها صورته بين غلالة دموعها، يتهادى في وقفته بوجهه الأسمر، أغمضت عينيها بقوة لعلها تجعل من جفنيها ستاراً يحجب صورته، عادت لتفحتهما ببطء وتردد، كان قد اختفى لحظتها.....
ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!
ارتكزت بكفيها على الأرض، تحاول أن تدفع نفسها لعلها تنهض، ترنحت في وقفتها، أحست بطيفه يضمها، يمسكها من كتفيها بقوة ويعود ليهمس في أذنيها بتلك الكلمات....
ارتاعت وهي تنكمش، ارتمت على حافة السرير وهي تحمي نفسها من سطوته بإرتجاف....
لكن لا أحد، كانت تتخيل من جديد، ضمت نفسها، وصدرها يعلو ويهبط بفزع كلما تذكرت تلك الليلة التي غاب عنها القمر....
لفّت لأحمد وعيناها مغرورقتان بالدموع....
يداه الصغيرتان توسدتا رأسه، بدا في نومه كالملائكة، دثرته جيداً بما أستطاعت به قوتها المعطلة....
"مريم، أعتذر لكِ لن أكون موجودة هذا المساء، أتذكرين المفاجأة التي أخبرتك عنها، عن راشد!! تصوري سيقترن بابنة عمي بدلاً من "خالد"، كم أنا سعيدة، باي، وأكرر اعتذاري".
"مريووووم، هل أنتِ غاضبة، ردي عليّ برسالة".
"لا تقلقي سنعود غداً إلى البيت، سأنتظرك مساء الغد"..
ألقت "مريم" هاتفها دون أن تكمل قراءة بقية الرسائل...
أعود!! تريدني أن أعود بعد كل ما حدث؟! كنتُ سأضيع بسببك..لمَ لم تخبريني من قبل لم؟!!
وعادت لتنتحب من جديد بصمت، تقلب "أحمد" في فراشه، فقامت بهدوء....
توجهت إلى الحمام، والدوار يرنحها كل حين....
"إذا كنتُ سأعيش فمن أجلك يا "أحمد"، أما أنت يا "خالد" فلن أسامحك أبداً، أبداً"
وسالت دمعة جديدة على الوجه المتعب، هزت رأسها بقوة لتغتسل من الأدران، أدران الحياة كلها، لعل حرارتها تخفت وتخفت النار التي تلسع صدرها.....
===============
كانت قابعة على مائدة الإفطار، تكونت طبقة متماهية على الشاي، أصبح بارداً لا طعم له كحياتها ربما....
ترفع رأسها لأدنى حركة، لأقل نسمة تجولُ المكان، صوبت ناظريها إلى غرفة والدها، تنتظر أن تخرج...
تُريد أن تراها، لم تنم البارحة أبداً، سمعت صرير الباب، أطلت "مريم" بعينيها الحمراوتين، رمقتها من علو، ثم جرّت يد "أحمد" الذي كان يكابد النوم.
"لم تُلقي حتى التحية!!"
ترك "أحمد" يدها ليتناول الطعام مع أخته، صرخت فيه بقوة أخافته: - لا تلمس شيئاً، سأصنع لك فطوراً آخر، لا تدري أي يدٍ قذرة صنعته!!
تطلع لها "أحمد" بتساؤل دون أن يفهم شيئاً، أما "ليلى" فنكست رأسها ودموع تأبى التوقف تملأ وجهها، أرادت "مريم" أن تضيف شيئاً آخر لكنها أمتنعت، نظرت لها ببرود واستحقار ودلفت إلى المطبخ..
وما أن وصلت إلى الباب حتى أغلقته خلفها وأجهشت بالبكاء، تهاوت كما تتهاوى الورقة قُبيل الخريف، وتظل الرياح تعبث بها لكأنها لا تدري في أي بقعة تُلقيها، وتدور وتدور في كل مكان، وحين تقع، تتفتت، تتفتت هكذا إلى ذرات، فلا تعرف من أي شئٍ تكونت أو ما هي ما هيتها بالضبط، أكانت ورقة أم ذرات غبار!!!!
لم تدري كم بقت على هذه الحالة، قامت عندما سمعت صوت "أحمد" يناديها، مسحت وجهها بسرعة، واتجهت للموقد، خاطبها "أحمد" من خلف: "- مريوووم" أنا جائع...تأخرت عن المدرسة. - انتظر دقائق. - ليلى ذهبت وهي تبكي.. - أحسن. - لماذا كانت تبكي؟! - اسألها.. " إذا كانت تقدر أن تُجيبك". - طيب سآكل شطيرة من تلك التي أعدتها. - قلتُ لك لا... "كل ما تمسكه بيديها يتلوث!!". - لماذا؟! - لا تكثر من الأسئلة.
وأخذت تسكب الشاي الساخن في "الدلة" وهي تحاول أن تركز. - لماذا؟!
طالعته بغضب وهي تصرُّ على أسنانها بغيظ: - أصمت. - دائماً تصرخون علي. قالها بتباكٍ.
…………………- - أنا لا أحبكم لا أحبكم. …………………..- - لو كان والدي هنا لما...
ولم يكمل، فقد ندت من فمها صرخة ....
كانت مياه الشاي قد انسكبت على يدها دون رحمة، اتحدت مع الجلد، عضت على شفتيها وهي تتلوى على الأرض التي فاض منها الدخان.....
دفنت جبهتها بأرضية المطبخ، اقترب منها "أحمد" بخوف وبكاءه يرتفع، هزّ كتفيها لكنها لم تستجب: "- مريووم" قومي..آنا آسف. …………………- - لن أتكلم مرة أخرى والكعبة الشريفة. …………………- - لالا، والله العظيم....مريوووم....لا تموتي...مريووووووم.
وركض كالمجنون إلى "ليلى" تسبقه دموعه وإحساس بالذنب يعتصر روحه، لا يريد أن يفقدها، لا يريد، يكفي أمه، يكفي أبوه، إلا هي، كلهم إلا هي..إلا هي..إلا هي...
- ل..ي..ل..ى، مريووم..مريووم.
أنفاسه تتقطع وغصة تمنع حروفه من الخروج بوضوح، شدّ ثوب "ليلى" التي كانت ذاهلة، غائبة في عالم آخر. - ق..ومي، مريوم..مريوم..ستموووت.
أفاقت "ليلى" من استغراقها اللامرئي.."ستموت"، تطلعت إليه وكأنها انتبهت إلى وجوده هنا للمرة الأولى. - ها، ماذا تقول؟! - قومييييييي.
شدها وهي تسير خلفه كالمسحورة حيثُ المطبخ...
لازال رأسها يلامس الأرض، وقد انتثر شعرها ليخفي معالم وجهها، كانت ساكنة ما خلا من حركة تنفسها الضعيفة....
- ماتت...ماتت. ردد "أحمد" بذهول وهو ينقل بصره بينها وبين "ليلى".
لم تحر "ليلى" جواباً، لازالت فاقدة الحس بكل ما حولها، لكأنها في حالة تأمل صوفية لكل شئ إلا هي!! تطلع لها بفزع لكأن صمتها يؤكد ما كان يردده.
ارتجف فكه بقوة، اقترب من "مريم" جثا بجانبها، لازالت ساكنة في وضعيتها.
تعفر على الأرض، ركل بقدميه كل شئ ولا شئ، أخذ يضرب الهواء بيديه وهو ينشج بإختناق......
انتبهت "ليلى" لما يدور حولها، فزت من وقفتها وهي تهرع لأخيها الذي يبدو وكأنّ مسّاً أصابه...
في تلك اللحظة رفعت "مريم" رأسها بضعف وقد أبيضّ وجهها من الألم، بدت عيناها صغيرتان، صغيرتان جداً..
تطلعت "ليلى" إلى حيث تعتصر يدها اليمنى وقد طفح الإحمرار بجلدها، تلاقت عيناهما، أشاحت "مريم" ودوار ساخن يعصف بها...
أستلقت ببطء على الأرض من جديد، لكأنّ أرضيته تخدرها، تحسسها بالأمان، ودت أن تغفو، منذُ زمن لم يداعب النوم جفنيها، وهي متعبة، متعبة وتريد أن تنام، أن تنام فقط.....
لكنّ صراخ "أحمد" أفسد عليها هذا الحلم..ومنذُ متى تتحقق الأحلام؟!!
لم يكن يسمع، صوتها أضعف من أن يصل إليه في هذه المعمعة، عادت لتغفو من جديد، جفناها ثقيلان، يتكاسلان حين تهم بفتحهما..
جثت "ليلى" بجانبها بوجل، وهي تشير لأحمد بأن يصمت، سكت وهو يرى تحرك رأس أخته لكأنها تجاهد النهوض..
"لم تمت!!".
- أحمد أسرع وأحضر ضمادة لف ومرهم الحروق بسرعة..هيا.
ركض "أحمد" وكأن الحياة عادت إليه من جديد وقد أقسم مع نفسه ألا يُغضب أخته مرة أخرى، سيطيعها ولن يرفض لها أمراً قط، كلهم إلا هي، إلا هي!!!
عاد بكل شئ، ترددت "ليلى" بإمساك يدها، قالت "لا تلمسيني..يدي قذرة وأنا أصيبها بالنجاسة!!!".
ارتجفت يدها حتى قبل أن تمسكها، كانت الأخيرة تهذي بصوتٍ خافت، لم تكن تحس بشئ من حولها في تلك اللحظة، ما خلا اسماً لا يفتأ أن يلهج به لسانها كل حين....
وكان خالداً!!!!!
============
البيت هادئ هدوء الأموات، ذهب الأحباب من غير عودة، ذهب والدي و فرّت "ليلى" !!!!
أجل، لا تنظروا لي بغرابة، ارتحلت مع جنة الليل، إلى أين؟! لا تسألوني لأني لا أعلم...
تركت رسالة صغيرة بجانب المرآة كتبت فيها: "لن أعود، لا تبحثوا عني!!".
ذهبت هي الأخرى، ذهبت مع الريح!!!
كان هذا منذُ شهر تقريباً على مرور الحادثة....
لم يتبق إلا أنا و صغيري ومحمد، الذي يعتقد أن بيتنا فندق يأوي إليه متى يشاء دون أن يدرك بأننا بحاجة لرجل يحمينا...
أنام الآن مع "أحمد"، نغلق الأبواب والنوافذ حين يحل الغروب، نلتصق، ونرتجف عند أقل نسمة تدقُّ بابنا..
أن تعيش لوحدك عذاب، الوحدة كريهة، قاتلة، تُصيبك بالجنون، لا تجد من يخاطبك، يفهمك أو يسمعك، بإختصار أنا تائهة، تائهة في حنايا الزمن المر....
أُرسل "أحمد" إلى المدرسة في الصباح الباكر، وأبقى لوحدي في البيت، أصادف "محمد" أحياناً، بات نحيلاً وقد دكن لونه، عيناه تأفلان بسرعة، كجحوظ الشمس في لحظة الغروب....
لم يتبق شئ في البيت إلا أخذه ليشتري لنفسه سماً...
الشئ الوحيد الذي قاتلت من أجله هو تلفاز غرفة الجلوس التي بتُ أقضي فيها جلّ وقتي، خفت أن يسرقه فلا يتبق لي غير الجدران أخاطبها!!!!
اعتزلت الآخرين وهم أعتزلوني، أصبحنا كالعيب، الكل يخجل منا، لم تعد تؤثر فيّ نظراتهم أو كلماتهم التي يلقونها بقصد أو دون قصد...
كل همي هو "أحمد"، أجل "أحمد" أخاف أن يجرحه أحدهم بكلمة، وأنا لا أحتمل نظرة ألم في عينيه، تقتلني، تصيرني إلى هشيم..
الأيام تمضي بطيئة، مملة تُكرر نفسها، لم أعتد على سيمفونيتها بعد، اشتقتُ للجامعة، لكتبي، لبحوثي على الأقل كنتُ أسلي نفسي بها....
أما صديقاتي..هه صديقات؟!! كلهن تلاشين، لم يعد أحد يتصل بي منهن الآن، كلهن كذابات، غشاشات، زائفات كفقاعات الصابون..
صديقي الوحيد هو كتابي، ما أوفاه!!! لازلت أُعيد قراءة رواية "بداية ونهاية"، نهايتها تعجبني وتخنقني!!! ما أروعك يا محفوظ.....
أرقب الآن عودة "أحمد" بفارغ الصبر، ليحدثني عن مدرسته، لأساعده في حل واجباته، لأفعل له أي شئ، أي شئ قبل أن يصيبني الجنون...
قد تتساءلون كيف نعيش دون مورد مالي!!
الفضل كلّه لله الذي لا ينسى عباده ثم لجارتنا "أم محمود" التي لا تفتأ تُحضر لنا ما نحتاجه كما لو كنا...كنا فقراء!!!!!
تطلعت إلى يدها التي ترك الحرق أثراً بسيطاً عليها وهمست: "رحمك الله يا والدي، تركتنا للفقر والذل ومنِّ الناس".......
================= - قلتُ لكِ لا.. - ما ذنبها إن كان أخوتها هكذا، هي شئ آخر.. - التفاحة الفاسدة تُفسد ما في الصندوق.. - هذا حكمٌ جائر، الإنسان يُقاس بأفعاله، لا بأفعال الآخرين.
صمت "خالد" ولم ينبس ببنت شفه، لمست كتفه وهي تنظر له بتوسل: - أرجوك يا "خالد"، لقد تركت الجامعة، لم أعد أراها، لم تتوانى قط عن مساعدتي يوماً، والآن أخذلها؟!! - تركت الجامعة!! منذُ متى؟!
ردت بإنفعال وكأنها وجدت بصيص أمل: - منذُ..منذُ، تذكر ليلة خطبنا "فرح"، كان ذلك آخر عهدها بالجامعة.
أخرج علبة السجائر من جيب بنطاله، أشعل واحدةً وهو شارد الذهن.. - ها ماذا قلت؟! - هي نصف ساعة فقط لتزوريها وتعودي فوراً.
ودون حتى أن تسمع نهاية عبارته، هرعت تخطف عباءتها وحجابها، وأنطلقت مع السائق إلى هناك.
==============
- لا تذهب، لاتذهب، لاتتركني لوحدي. - ماذا تريدين أن أفعل؟
قالها بملل وهو يحك ما بين أنفه. - أبقى معي، لا أحد هنا وأنا أخاف. - آسف، لدي موعد مع أصدقاء. - أنا أختك، أختك، حرااام...
وانتحبت بمرارة وهي تُمسك بتلابيب قميصه لتمنعه من الخروج، أبعد يديها بعنف وهو يشرع بإكمال طريقه. "- محمد"، لاتذهب، سأعطيك ما تُريد فقط أبقى معي، أبقى معي...
وتوقف وقد انتقلت الحكة إلى صدره، نظر لها بلؤم وهو يسأل: - ماذا ستعطيني؟
وكأنها وجدت في سؤاله بصيص أمل، بلعت ريقها بإزدراد وهي تردف: - لدي 30 درهم، هذا ما تبقى عندي. قالتها بإستعطاف. - أجلبيهم. - حسناً..حسناً. انتظرني لثوانٍ فقط، لا تذهب.
وجرت لغرفتها بسرعة وهي تتلفت خلفها كي لا يغيب عن مرمى عينيها، فتشت درج خزانتها بجنون، عادت إليه وهي تمسك الأوراق النقدية.
تناولها وهو يعدها، حك أنفه من جديد، ووضع الأوراق في جيبه، تأملها لثوانٍ، أشار لعنقها وهو يردف: - أعطني هذه أيضاً.
نظرت إلى حيثُ أشار، قبضت على قلادتها الفضية بيأس ويدها ترتجف: - لا إلا هذه، إنها هدية من أمي، من أمنا في عيد ميلادي. قالت بإستعطاف. - أعطنيها وإلا خرجت.
فتحت فمها لتقول شيئاً ما لكنها أحجمت، تأملت قلادتها، كانت على هيئة قلب صغير، في داخله آية "الكرسي"، تطلعت لأخيها وهي تهز رأسها بتوسل، بإستعطاف، بذل لكن أنى للصخر أن يتحرك!!!
مدت يديها خلف شعرها، فكت عقدة القلادة، وكأنها تفك خيوط حياتها، جذورها، حيثُ نفحة الغالية، حيثُ ذكرى والدتها في عيد ميلادها السادس عشر، في آخر عام كانت معهم فيه....
اهتزت يدها، لكأنها تستنكر هذا الفعل المشين، انساب العقد بين أصابعها، فتحت القلب، واستخرجت الآية المقدسة، ضمتها بيدها اليمنى، وناولتهُ قلادتها بيدها الأخرى التي لا تكف عن الاهتزاز......
توسلته بعينيها الدامعتين للمرة الأخيرة، وضعها في جيبه هي الأخرى دون أن يبالي بحديث عينيها....
وسار!!!!!!!!
فتحت عينيها على أشدهما، وهي تعض على شفتها اليسرى، أفلتتها و صرخت بقهر، بألم، بلوعة و بأعلى صوتها: - محمدددددددددددددد..
لكنهُ كان قد ارتحل، تركها وهي تتأوه، تنشج على الأرض كنشيج الميازيب في مواسم المطر.....
خذلها، أخوها خذلها، من سيبقى لها الآن؟!!
لا يوجد أحد، لا أحد...
نظرت إلى السقف وشهقاتها تتصاعد، ويدها تعبث حيثُ انتُشلت القلادة، ودت أن تخترقه، أن تصل إلى فوق، إلى أبعد نقطة، لعلها تلحق بأمها وأبيها، حيثُ الكرامة، حيثُ لا ذل، حيثُ الأحد!!!!
عادت لتتلمس جيدها الذي بات خالياً، وخزات متلاحقة تصيبها في الأعماق كسهام عمياء، نكست رأسها تبكي على حالها بصمت كما أعتادت دوماً....
تناهى إلى مسمعها دق الباب، أرتاعت في جلستها وهي تلتفت حولها بذعر، الدقات ترتفع وهي تتراجع إلى الوراء بخوف، كانت تريد أن تعدو لغرفتها وتوصدها عليها بالمفتاح لكن الخوف شل من حركتها، لم يسمح لها بما تُريد...
من القادم الآن في عزّ الظهيرة؟!
انفتح الباب، وولجت إلى الداخل بتردد.....
تطلعت إلى الوالجة بذهول، ترمقها بتعجب، لكأنها آخر شخص تتوقع أن تراه...
اقتربت منها "أمل"، ارتمت في حضنها وهي واقفة دون استجابة، تأملت حنايا وجهها الوله، يسبقها الشوق، يرفُل بأعذب آيات المحبة.....
لحظة هذه أخته، أختُ ذلك القاسي، ذلك المجرم، ذلك ال.....
أخفضت من بصرها، عينيها باتتا أصغر حجماً من كثرة النياح، بدت لها رفيقتها ضبابية.....
لفت وجهها إلى الجانب الآخر، لم تفهم "أمل" شيئاً، وكيف لها أن تفهم؟! مستحيل أن يتفوه ذلك الحقير بشئ..
صدت لها، تنظر إليها بعينين غشتهما دموع أزلية: - جأتِ لتشمتي بي..لتخبري الفتيات بحالتي، أليس كذلك؟ - مريم ماذا تقولين؟! - قولي للجميع أني بخير، بأفضل حال من دونهم. - أنا جأتُ من أجلك، لأنكِ صديقتي، أروع صديقة أكتسبتها في حياتي. ………………………- - وإن كنتُ قد تأخرت لزيارتك فلظروف..ظروف خاصة. - لا يريدونك أن تزوري واحدة مثلي، أخوها مدمن مخدرات وأختها.....
لم تكمل، خنقتها الغصة، ألجمت كلماتها، أجهشت بالبكاء، دموعها باتت رفيقتها اللجوجة، لاتفتأ أن تصاحبها كل حين...
- أنا أمقتكم جميعاً، أخرجوا جميعاً ومن حياتي إلى الأبد.. - مريم أرجوكِ.... - انسي أنكِ تعرفين واحدة بهذا الإسم، انسها ووفري عليّ وعلى نفسك المشقة. - هذا غير ممكن، غير ممكن البتة، لا ترمي بصداقتنا عرض الحائط.
مدت "مريم" لها يدها بجزع، لكنها انتبهت لنفسها ولمت ذراعها.
- انتبهي لنفسك، وتأكدي إن أحتجتِ يوماً لأحد، فأنا موجودة دوماً....
وشرعت بالتحرك، ستذهب هي أيضاً، كلهم يذهبون و..يتركوني!!!
"- أمل" انتظري...
وهرعت إليها لتحتضنها بقوة، لعلها تمدها بالأمان، بالدفئ والحنان في أيام تبدو قاسية جداً....
بكت كلتاهما على كل شئ ولا شئ، على الأيام، على الفراق، على الزمن...
أخ ما أقسى الزمن!!!!
- سلمي لي على سلمى ومنى وك...وكل البنات. - إن شاء الله. - وكلما أنهيتي كتاباً أحضريه لي لأسلي به نفسي، وإذا لم تستطيعي القدوم أبعثيه مع السائق. - ألن تعودي إلى الجامعة؟! - لاأقدر، لا أقدر، ليس بمقدوري، لاأدري، لا أدري..ليس الآن. - لاتبكي يا عزيزتي، كوني قوية كما عهدتك. - سأحاول..أتمنى ذلك. رددت بيأس.
وما نيلُ المطالب بالتمني ولكن تؤخذُ الدنيا غلابا......
- مع السلامة. - ستذهبين الآن؟! سألت بألم.
هزت رأسها بإيجاب وهي تؤكد: - لا تقلقي سأزورك بين الحين والآخر. ………………………….- - مريم لن أنساكِ أبداً..أبداً.
حضنتها من جديد وهي لاتود إفلاتها، نزعت نفسها غصباً وهي تودعها: - هيا أذهبي، لقد تأخرتِ عن العودة. - أعتبر نفسي مطرودة. - نعم. ابتسمت مريم ابتسامة باهتة. - مع السلامة. - مع السلامة.
انصرفت وروحها متعلقة بالواقفة هناك، لحقتها مريم حتى الباب، تحركت السيارة، تابعتها ورأسها يشرأب كل حين..
توارت مع غبار السيارة، التحمت مع حافة الباب، أغمضت عينيها وهي تشهق، عضت على نواجذها وهي تأخذ شهيقاً بطيئاً...
لابد أن تمسح دموعها، فبعد قليل سيصل "أحمد" وهي لا تريده أن يرى دموعها، لا تريد أن تزيد من آلامه، يكفيها سؤاله الدائم عن "ليلى".....
"ليلى، يا ترى أين أنتِ أين؟!"...
وكأنها ارتاعت من وقفتها بالخارج، فدخلت وأغلقت الباب خلفها تنتظر دقات القادم بعد قليل...
كان ينتظرها بفارغ الصبر، قتلهُ الانتظار، وعصفت به خواطره، أفكاره وظنونه كأمواج البحر، تطفو حيناً وتغزر حيناً آخر، لا قرار لها....
لاحت سيارة العائلة السوداء، تنحى عن الباب وهو يوسع الخطى إلى هناك، فتح باب السيارة قبل أن تفتحه، عاجلها بالسؤال: - ها كيف حالها؟! سأل بلهفة.
لم تجبه فوراً، ترجلت من مقعدها، وجهها يرفُل بآيات الحزن، العينان منطفئتان والوجه ساهم وقد علقت بقايا دموع في حناياه.
- كيف حالها؟! كرر بدون صبر. - بخير. ردت بإختناق.
تنهد بإرتياح وإن كان صوتها لم يرحه، تطلع لها بتساؤل وهو يرى الدموع تنساب من المحجرين، أمسك يدها بقوة وهو يقول: - أنتِ تخفين شيئاً، قولي ماذا بها؟! أجيبي... - إنها..إنها... - إنها ماذا؟! أجيبي.. سأل بخوف. - لا أدري، لا أدري.
وأجهشت بالبكاء، أدخلها للداخل، وقلبه يدق بقوة كطبول مجنونة، أجلسها على الكرسي لتهدأ، أخذ نفساً عميقاً وهو يكمل سيل أسئلته: - ماذا تقصدين بكلامك، أفصحي.. - لو رأيت حالتها، كيف تعيش، لاشئ في البيت، البيت خالي إلا من الجدران، أتصدق كانت لوحدها، لوحدها في البيت.
شهقت وقد منعتها الغصة من أن تكمل، أما هو فتقطع قطعاً صغيرة، انقبضت عروقه وبدا كل شئ ضبابياً بالنسبة إليه..
- كيف لوحدها؟! وأخوها!! - حين وصلت هناك، كان قد خرج، خرج ذلك المجرم وتركها لوحدها..
"مجرم!! ليس هو فقط، لو تدرين ماذا فعلتُ بها!!".
أطرق برهة، ومئات الخواطر تتقاذف بذهنه، تعتصره عصراً، تقذف به إلى القاع، أكون أو لا أكون..تلك هي المشكلة!!!
تطلع لأخته، لازالت تبكي، أحس بالشفقة لها ولنفسه ولتلك القابعة ليس ببعيدٍ عن هنا....
جفل من نغمة هاتفه، قطع عليه تأملاته السرمدية ورثاءه لنفسه...
نظر للرقم الذي يتوسط الشاشة، كان غريباً، ضغط الزر وأنساب الصوت: - آلو. - السلام عليكم. - وعليكم السلام. - السيد خالد ال...؟! - نعم. - معاك مستشفى (....) قسم الحوادث. …………………..- - أنت معي؟! - ن..عم. ردّ بتقطع وقد جفّ حلقه. "- فيصل ال..." سعودي الجنسية، تعرفه؟! - أجل. هوى قلبه للأعماق. - لقد أصيب بحادث سيارة، أرجو أن تحضر فوراً.
أغلق السماعة، لم يسمع كل ما قاله الرجل، بدأت الدنيا تدور وتدور كداومة مجنونة، والصفعات لا تتوقف، أينما استدرت انهالت عليك، وتستمر الدوامة في الدوران...
===============
الساعة الآن الواحدة والنصف، و "أحمد" لم يعد بعد، دارت حول الصالة بتوتر، تتطلع إلى الساعة كل حين وتهرع إلى الباب حين تسمع بوق سيارة، أو خطوات إنسان أو حتى دبيب نملة!!!
الساعة قاربت الثانية، أين هو يا ترى؟!
ارتعدت فرائصها..أحدث له مكروه؟!!
شعرت بالجزع، وضعت أصابعها بين شفتيها المرتجفتين، ماذا تفعل الآن..أجيبوني؟!
أبوها ليس هنا...."ليلى" ليست هنا...."محمد" ليس هنا...لا أحد هنا، فقط هي وهذه الجدران التي تخاطبها بجنون...
من سيساعدها، من سيبحث عن "أحمد"...لا أحد، أقول لكم لا أحد...
لا بل يوجد أحد.
يوجد الله ثم .......
هرعت إلى الشماعة، سحبت عباءتها، وانطلقت خارجاً، كادت تتعثر، وصلت لبيت "أم محمود"، جارتها، دقت الجرس بقوة دون أن تتركه ثانية واحدة، أطلّ "محمود" بوجهه، سألته بلهفة: - أمك موجودة؟! - أجل، هنا..تفضلي. - لا، قل لها أريدها فوراً.
حضرت المرأة مسرعةً وهي تعدل من وضع وشاحها: - ماذا بكِ يا ابنتي؟! "- أحمد" أخي، لم يعد بعد من المدرسة و... - اهدأي، اهدأي ربما يلعب مع الأطفال والآن سيعود. - كلا كلا، إنه لا يتأخر أبداً. "لا يريد أن يتركني لوحدي، يفهمني هذا الصغير". - طيب، ارتاحي أنتِ وسنبحث عنه.
تطلعت إلى ابنها الذي ناهز الثلاثين من عمره، فهم نظرتها: - سأذبحث للبحث عنه، لا تقلقي سنجده إن شاء الله. - سآتي معك. - لا يوجد داعٍ، سأجده. - لا سآتي، سأبحث معك، ماذا لو أصابه مكروه، سيكون بحاجة لي. قالتها وهي توشك على البكاء.
بحثوا بالقرب من مدرسته، وبالدكاكين والمحلات المجاورة، لكن لا أحد، لم يجدوه، وكلما زادت الدقائق زادت دقات قلبها الجزعة، كانت تستند بضعف في كل ركن، تمسكها "أم محمود" وهي تترنح، ترفع رأسها بسرعة كلما لاح لها طيف طفل، تفتش في الوجوه، وتدعو الله باللطف، اللطف فقط...
الساعة الآن الثالثة، خانتها قدماها، لا بد أن شيئاً جرى له، لا بد، اختطفوه ربما، ضاع!!!
- أحمدددددددد...
صرخت ونياط قلبها تتقطع، أسندتها "أم محمود"، هتفت لإبنها جزعة: - خذنا إلى البيت بسرعة، لقد أغمي عليها.
عادوا إلى البيت، تفتح عينيها ببطء وتعود لإغمائها...... تهذي بإسمه، ودموع تنساب من عينيها المغلقتين!! تنساب رغم إغماءها!!!!
==============
وصل "خالد" إلى حيثُ "فيصل"، كان مسجى على السرير، وقد أحاطت به الأجهزة والضمادات كأذرع أخطبوط!!!
مثخنٌ بالجراحات، صدره يعلو ويهبط بضعف، ارتجفت يد "خالد" وهي تمسك بعمود السرير...
"فيصل" فيصل!!!! ناداه بصوتٍ أجش، لعله يسمعه، لعله يخاطبه قبل أن يفوت الأوان وينتهي كل شئ، كل شئ!!!
أخبره الطبيب أن فرصة نجاته ضئيلة جداً، أحس بأصابع واهنة تلمس يده، تطلع..
كانت أصابعه تتحرك دون هدى...
اقترب منه أكثر، دنى من وجهه، فمه المتيبس يتحرك بصعوبة، بصعوبة شديدة...
- خا..لد..
وبكى، بكى ولم يكمل..أغمض عيناه وأصابعه تزيد من ضغطها الواهن على يده..
"فيصل...يبكي!! ذلك الذي يفتر ثغره دوماً عن ابتسامة..عن ضحكة تجلجل المكان..يبكي!!".
- سأموووت..سأمووت.
أخذ يردد بصوتٍ ضعيف، بكى "خالد" هو الآخر، بكى من الداخل، على روحه، على صديقه، على كل شئ....
- سأموت قبل أن أودع أمي، أخوتي الصغار. ………………- - أتذكر حين اتصلت بي أمي ذلك اليوم ترجوني العودة، رفضت، أردتُ أن أمتع نفسي هنا..يا ليتني عدت، لن أراها الآن، لن أراها...
لازالت الدمعة عصية في عينيه، حلقه جاف، يرفض أن يترطب ليخاطب ذلك الذي يعالج سكرات الموت...
اهتزّ بدنه، وتنفسه يزداد، أمسكه "خالد"، ضغط على يده ليهدأ من نفسه، حرك "فيصل" رأسه بضعف ناحيته، ابتسم، ابتسم واهنة: - لا تنساني يا "خالد" لا تنساني، أنت أفضل رجل صادقتهُ بحياتي لولا غرورك...
عادت دموعه لتنساب من جديد، سرت قشعريرة في جسد "خالد" خاطبه بهمس: - ما هذا الهراء يا رجل، ستقوم، ستقوم بعد قليل لتملأ أجنحة المستشفى بصوت ضحك....
اختفى صوته، أختنق في حنجرته، كان مغمضاً عينيه و على الشفتين ابتسامة.
هزه "خالد" ورعدة بقلبه تزلزل أطرافه، تكاد تُسقط جسده الثقيل من علو إلى الأرض، أسفل سافلين!!!
فتح "فيصل" عينيه بصعوبة وكأنه يكابد ثقلاً، تنفس "خالد" الصعداء ولمعة تتألق في عينيه.
- لا تنم يا "فيصل" لا تنم، أبقى مستيقظاً..قليلاً، قليلاً فقط... قالها بترجي، بتوسل. - سأموت يا خالد، سأموت لا فائدة. - كلا لا تقل هذا. - سأموت وأنا وأنا....
حينها تغيرت ألوانه، تجعد وجهه وهو يردف بإختناق: - وأنا فاسق، زاني، لا أصلي ...
تدحرجت الدموع بغزارة من تلك العيون العصية، لمّ جسد صديقه لعله يهدأ بين ذراعيه.
- لا أريد أن أموت الآن، ليس قبل أن أعتمر، أن أحج..لا أريد أن أدخل النار..لا أريد أن أموت الآن لازالتُ شاباً...لالالالالالالا
اهتزّ الجسدان معاً، كان "فيصل" يمسكه بقوة، لكأن بإمساكه يمنع ملك الموت أن يأخذه، يحاول أن يتشبث به حتى الرمق الأخير، فليبتعد، ابعدوا "عزرائيل" عني أبعدوه...
- خ..ا..لد لا..لاتنساني بدعائك أبداً...
"والتفّت الساقُ بالساق، إلى ربك يومئذٍ المساق"
أمواج السراب تتلاطمُ من بعيد، الصمتُ يخيم حول المكان ما خلا غصات بالقلب وجروح متقرحة بالذاكرة، أفل الجسد، وغابت الروح، عرجت إلى الملكوت، حيثُ الحساب، حيثُ إما الجنة أو النار.....
لازال "خالد" ممسكاً بالجسد، يضمه، يشمه، يسكب عليه دموعه، يبكيه بحرقة ولأول مرة يبكي...
بكى بقوة بكاءاً غير طبيعي البتة، كان خائفاً، خائفاً بشدة، زاد من ضمه للجسد الذاوي، عبراته تخنقه، ودّ أن يصرخ، أن يزلزل أروقة المستشفى.
"أعيدوا فيصل أعيدوووووه".
==============
أفاقت من إغماءها، تطلعت إلى العيون المحدقة بها، فتشت خلفها لعلها تجد تلك العيون الصغيرة التي تعرفها، لكن لا أحد...
أحتقن وجهها، وبدأ فكها بالإهتزاز، تريد أن تسأل، أن تصرخ، أين هو أين؟! - لا تخافي يا ابنتي، لقد وجدناه، وجده "محمود". - أين؟! ولماذا ليس هنا؟! أنتم تكذبون..لقد حدث له مكروه، قولي الحقيقة. - إنهُ في..في المستشفى. - ماذا؟! - ضربه أحد الأطفال و..شجّ له رأسه.
أنهضت نفسها بتثاقل رغم ممانعة المرأة لذلك.
- أين ستذهبين؟!
مسحت دموعها الملتهبة، الحمد لله وجدوه، لك الحمد والشكر يا رب.
دلفتا معاً إلى المستشفى، قسم الحوادث، كان القسم مزدحم بشتى الناس، لكأن أصابهم جنون، معظمها حوادث تصادم سيارات..والسرعة قاتلة لا ترحم....
أخذن يبحثن بين الرؤوس، يسألن الممرضات، والكل لا يعرف عن أحد، الكل مشغول، منهم من ينتظر مصير من يحب، ومنهم من ينتظر يد الجراح لتقتصّ منه!!!!
أشكالهم كانت منفرة ومفجعة، ورائحة المستشفي تصيبها بالدوار....
- أجلسي هنا يا ابنتي، سأبحث أنا عنهم، لا نريد أن يُغمى عليكِ من جديد..
هزت "مريم" رأسها إيجاباً بضعف وهي تغمض عينيها....
باقي من الزمن ساعة، أليس كذلك؟!
كان يستند بالجدار كل حين، يلتفت إلى تلك الغرفة التي حملت جثمان صديقه، مثواه الأخير....
ترحّم عليه في سره مراراً وتكراراً، وشعور بالخوار يجتاح ضلوعه، يصيرهُ شفافاً، خفيفاً، لا جلَد له...
مسح دمعته المنسابة بحياء بين حنايا وجهه المتعب، الممر يبدو طويلاً لا نهاية له، وقد أنزوى في أروقتها أجساداً متناثرة هنا وهناك، بعضها يبكي وبعضها يُعانق!!!!!
تأمل صفحات هذه الوجوه، يرى في كل صفحة صورته، صورة "فيصل".. "أخ أيها الغالي"...
لم نحس بقيمة الشيء بعد أن نفقده؟!!
مسح وجهه، وأعين فضولية تراقب الصراع الكامن بوجهه...
تابع سيره، والخوار يعود ليعتريه، يُشعره بالهمدان...
مرت عليه نسوة ثاكلات، أفجعه نياحهن، فليساعدك الله يا "أم فيصل"، بل فليساعد الله كل أم مفجوعة بفلذة كبدها...
دموعه العصية باتت هتونة، أخذت تذرف بغزارة، وهو يذكر أمه، دعا من الله أن يحرسها له...
"يا رب أحفظ كل أمهات المسلمين"...
لم يشعر "خالد" قط بأنهُ قريب من الله مثل هذه اللحظة، كان يدعو بحرارة نابعة من القلب، لا بل من سويداء القلب، تحت الأحشاء مباشرة...
أجساد تتصادم به، لازالت تسرع بجنون هنا وفي الخارج!!!!
الناس لا يتعظون أبداً...أبداً...
أستند من جديد على الحائط وهو منكسٌ رأسه، رفعه فجأة...
تلك الأم، تلك الأب، تلك الأخت، تلك كانت كل شئ بحياته....
في نبضها الضعيف تتعلق روحه، تسري دماءه، ومعها يتقاسم...
بداياته ونهاياته وذكرى الوطن.....
أحاط الأنامل، شدها بقوة كسياج، ورقد بجوارها....
لن يتركها لا اليوم ولا غداً ولا بعد مائة سنة....
وهوت نجمة، أفَلت، تقدّم للأرض زاداً آخر....
تُقصي الليل، وتتيح المجال للصبح ليبلج...
أليس الصبحُ بقريب!!!!
================
جلست في الكافتيريا تنظر للفتيات بشرود، تطلعت لساعتها برهة ثم عادت لتتصفح الوجوه، لمحت صاحبتها قادمة وعلى الشفتين ابتسامة، بادلتها ابتسامة باهتة، جرّت لها هذه الأخيرة كرسياً وجلست مقابلها.
- ما بالك؟! - لاشئ. - تبدين واجمة..
تنهدت "أمل" بضيق وهي تُدّلك جبهتها.. - إنها "مريم" لو ترينها...لو ترين ما آلت إليه....
لم تُكمل، انتابتها غصة، أصابعها تتشابك لكأنها في حالة صراع....
- مسكينة.. ردّت سلمى. - ألم تزوريها؟! - أنا كلا.
ثم أردفت وهي تُخرج هاتفها وتعبث بأزراره الملساء. - أمي قالت لي أن أقطع صلتي بها، حتى رقمها جعلتني أمسحه من هاتفي..
- لماذا فعلتِ هكذا، إنها بحاجة لنا، بأمس الحاجة لوقفنا معها ونخذلها؟! - تريدين أن أعصي والدتي من أجلها؟! ………………………………- - ثم، ثم والدتي محقة، مالي وهي، لا أريد أن تخترب أخلاقي..
شهقت "أمل" بقوة، جعلت الفتيات اللاتي بالقرب منهما يلتفتن حولهما بفضول، تطلعت "سلمى" بإرتباك لصديقتها لتشير لها بأن تهدأ.
كان وجهها محتقناً من الغضب، من الغيظ بما تفوهت به صديقتها، صديقتها؟! مثلها لا تستحق كلمة صديق، مثلها بوجهين نسميها ماذا؟! منافقة..أجل منافقة..
"- مريم" ستُخرب أخلاقك؟! "مريم" تلك النسمة الطاهرة ستُفسدك؟! ما توقعتك هكذا يا سلمى، تطعنيها في شرفها..ما توقعتكِ هكذا أبداً..أبداً....إذا أنتِ من تعرفينها تقولين هكذا ماذا سيقول الآخرون؟!
بان الذنب على وجهها، لكأنها خجلت من نفسها، من كلماتها السوداء!!!!
حلّ الصمتُ الآثم حول المكان، الرأس تنحني شيئاً فشيئاً، ماذا عن الروح عندما تقع، تهوي إلى أسفل سافلين!!
أرادت "سلمى" أن تُلطف الجو المكهرب، أن تغير الموضوع، ابتسمت بتملق وهي تحكُ أنفها بتوتر: - لم تباركي لي.. - بماذا؟! سألتها ببرود دون أن تتطلع حتى في وجهها والنفور منها يزداد. - سأتزوج قريباً.
حينها رفعت بصرها إليها وهي تقول بلامبالاة: - مبروك.
عادت "سلمى" لتبتسم من جديد ولكن بحياء: - لم تسأليني من هو؟!
سألتها بلامبالاة والهوة بينهما تزداد، تمتد بطول الكذبة، بطول الزيف، بطول الضلالات!!!! - أنتِ تعرفينه، أعتقد ذلك.
رفعت رأسها هذه المرة بإهتمام وهي ترفع حاجبيها بتساؤل: - من؟!
أطرقت بحياء وهي تُجيب: - فاضل، ذلك الطالب الذي يحضر معنا المحاضرات.....
ثم أردفت وهي تضحك بحبور: - لم أكن أتخيل أنهُ كان يحضرها لأجلي، كي يكون معي في نفس المكان...تخيلي كان يحبني وأنا آخر من يعلم. ……………………..- - ولأن هذه آخر سنة له، لم يصبر، بعث لي بأخته لتفاتحني بأمر الخطوبة، كم تفاجأتُ حينها....
لم تنتبه لرفيقتها، تلك التي أمتقع وجهها فجأة، بات شاحباً، يُحاكي الأموات....
- أتصدقين قالت لي أخته أنهُ كان يحبني منذُ عامين..منذُ عامين وهو يلاحقني أملاً في أن يعرف اسمي بالكامل وعنواني!!!! ……………………..- - كان بمقدوره أن يُريح نفسه من هذا العناء كله لو كان سألني. …………………….- - لم أكن لأمانع، كم هم جُبناء هؤلاء الرجال!!!! …………………….- - ها ما قولك؟! ألا توافقيني بالرأي؟!
ثم أردفت دون أن تنتظر حتى جوابها، ابتسمت بحلم وهي تضع يديها أسفل ذقنها وتنظر للسقف بنظرة حالمة.. - لايهم، لايهم، المهم أني سعيدة، سعيدة لدرجة أني أودُّ أن أحلّق الآن.
كان العرق يتصفّد من جبينها ببطء، بدت قطراته ملساء، ناعمة، متلألأة رغم ظهيرة هذا اليوم...
انسابت القطرات بخفة، جرت على جفونها، تلكأت على رموشها ثم.....
سقطت!! هبطت من علو، هوت إلى أسفل، كما هوى قلبها إلى الأعماق...
الدم يضخ بعنف في شرايينها، يرسل إشارات مجنونة إلى أطرافها، يأمرها بالصراخ، لكنها تتشبث، تتمالك نفسها، الحزام ينقطع، ينقطع، ها هو ينفلت، يتفتت، تتقاذفه الرياح، تُطيّره، أين هو أين؟!
تنفسها يزداد، وجهها يتقلص، وشفتاها تبيضّان، تلاشت الألوان تماماً، تلاشى كل شئ، كل شئ....