في يوم حار من أيام شهر مايو المنصرم، كان هناك طابور طويل من البشر يقفون
تحت أشعة الشمس الحارقة
ينتظرون دورهم لاستلام كوبونة مساعدة غذائية أمام
احدي المؤسسات الاغاثية.
جاري عزيز في العقد الرابع من العمر، طويل
القامة، ضخم الجثة، كبير الرأس واليدين يقف في منتصف الطابور جمجمته تغلي،
العرق يهطل من جميع مساقات جلده، صحن خده يغلي بفعل حزم الأشعة الساقطة
علي وجهه،
الدهون تسيح وتتساقط مع حبات العرق وتسيح معها ما تبقي من كرامة
،حاول جاره الواقف خلفه في الطابور فتح حديث معه ،
فرد عليه بكل القرف
الذي تنضح به نفسه وبعصبية بالغة قائلاً :
رجاء...رجاء ...أنا روحي في مناخيري!!! ابتعد عني واقلب وجهك إلي الناحية الأخرى !!!
شعب كوبونات !!!
جاري
أبو حديد قصير القامة، أصلع الرأس،
تعلو شفته بسمة صفراء ماكرة، حضر إلي
الطابور متأخرا وأراد أن يستلم الكوبونة بطريقة الفهلوة وبدون الوقوف في
الطابور تحت أشعة الشمس الحارقة،
تقدم الصفوف حتى وصل إلي الموظف المسئول
وبدا يحدثه حديثا عذبا، وبدأ يكيل له المديح حتى لانت قسائم وجهه ودغدغت
الكلمات الطرية مشاعره، وهنا هبّ جاري عزيز وصرخ صرخة عظيمة وأمسك جاري
أبو حديد من قبة قميصه وقال له :
التزم الطابور...أنت لست أحسن منا... مكانك في نهاية الطابور...النظام نظام.
ودفعه
دفعة قوية باتجاه نهاية الطابور،
وخوفاً من السقوط علي الأرض أخذ أبو حديد
في الجري بسرعة مجاراة للدفعة القوية حتى توقف في نهاية الطابور.
توعد أبو حديد عزيز بالانتقام وتصفية الحساب في الحارة وبعد الانتهاء من استلام الكوبونة.............
فعلاً حشد أبو حديد إخوته وأرادوا الانتقام لكرامتهم المهدورة وحشد أيضا عزيز أولاده وأبناء عمومتهم تحسباً لأي طارئ
عبر
عزيز الطريق باتجاه بيته الذي لا يفصله عن بيت أبو حديد سوى ارتداد بعرض
مترين، أخذ أبو حديد بالصراخ و التهديد و الوعيد،
و استل قضيباً غليظاً من
الحديد المسمط و هجم، علا الصراخ و علت الشتائم من كل مكان و أخذت شياطين
آل أبو حديد وآل عزيز تتراقص في المكان، تنادى حشد كل منهم و هجموا،
هجوم
التتار و كأن هولاكو يقود عزيز و جنكيزخان يقود أبو حديد.
أخذت
القضبان الحديدية تعلو و تنقض على لحوم بعضهم البعض حتى أثخنتها جروحاً،
سقط عزيز أرضاً و تناوشه خمسة من آل أبو حديد
و سقط أبو حديد أرضاً و أخذت
القضبان الحديدية ترتفع وتسقط عليه كأنها ترغب في عزق أرض صماء، أخذت
الدماء تسيل غزيرة من جسم عزيز و أبو حديد،
حين ذلك علا صراخ النساء و
صياح الأطفال في الشارع، اختلط الصراخ بالصياح و البكاء، كنت نائماً نومة
القيلولة بعد صلاة الجمعة و غداء دسم في يوم مقدس عندنا
و لكن شياطين
الجيران كانت أقوى من معاني التآخي و التسامح، صحوت من نومي فزعاً على
صراخ و عويل، نظرت من النافذة فوجدت عزيز بين الحياة و الموت، تنهال على
جمجمته و باقي أجزاء جسده قضبان الحديد،
نظرت إلى طرف الشارع الآخر فوجدت
أبو حديد ملقى على الأرض و صحراء رأسه القاحلة تسيل دماءً غزيرة.
سرت
النخوة في عروقي، أردت منع تكرار جريمة هابيل و قابيل، تناولت بندقيتي و
أطلقت الرصاص في الهواء كانت ستة رصاصات كفيلة بارتفاع القضبان الحديدية،
تفرقوا جميعاً و تركوا عزيز و أبو حديد يسبحان في بركة دمهما،
اعتقد كل
طرف أن الطرف الآخر يُطلق النار، خافوا و تركوا، تدخل الجيران و أنقذوا
عزيز و أبو حديد، كل منهما دخل غرفة العناية المركزة، ستة إصابات بين
طفيفة و متوسطة من كلا الجانبين نتيجة المشاجرة حامية الوطيس،
تلقت علاج
طوارئ و أدخلت غرفة الحجز.
في غفلة من التاريخ و تقطع أوصال
الجغرافيا و بعصى سحرية، جاء أبو النصر و انتصر في زمن الهزائم، في حركة
بهلوانية أمامية قفز من ملازم إلى رائد و أصبح مأمور شرطة الحي الذي أسكن
فيه،
لبس العفش و انتفش، تزنر مسدسه و بكل الكبرياء و العنجهية توسط ثلة
من جنوده المظفرين،
اعتقلوا عائلة عزيز و عائلة أبو حديد المصاب قبل
السليم، و همس البعض له بأن هناك بندقية فضت الاشتباك و منعت جريمة قتل
مزدوجة،
أغاروا على بابي و طلبوا بندقيتي، قبلتها و سلمتها و أنا راضي
كامل الرضا عن نفسي و عن عملي.
تدخل أبو المستقبل صاحب المنصب
الرفيع في القضية بكل عياره الثقيل لأنه أحد أقارب عائلة عزيز، أدى ذلك
إلى الإفراج عن جميع عائلة عزيز المحتجزين بعد ساعات من حجزهم،
هبت ريح
الخير من حيث تحتسب الشر، فوجد أبو الساعات موطئ قدم له،
توسط لعائلة أبو
حديد لأنه صهرهم، هو صاحب منصب و لكنه أقل من أبو المستقبل، مساعيه تكللت
بالنجاح و أفرج عن جميع عائلة أبو حديد المحتجزين بعد ساعتين من الإفراج
عن عائلة عزيز،
عمت الفرحة قلوب العائلتين و خلعوا رداء الاعتقال و ألقوها
بعيداً تجاه بندقيتي.
ذهبت إلى المعتقل لزيارتها، طلبت الإفراج عن
بندقيتي العفيفة النظيفة الشريفة، وجهتها معروفة و التي لم تفقد البوصلة
يوماً في حين بنادق الآخرين غاصت عميقاً في الأوحال.
سألت أبو النصر: هل هذه البندقية مطلوب رأسها و شأنها وشنشانها؟!!!!
- أنا أسير وفقاً لأحكام القانون !!!! و أطبق القانون رأساً على عقب وستظل البندقية قيد الاعتقال.
-
لقد مضى أسابيع و أفرج عن الجميع،
أفرج عن من فتح اللحم وكسر العظم وحاول
القتل ولكن بندقية منع الشر مازالت معتقلة ما هي تهمتها ؟!!! هل لأنها
بندقية مقاومة ؟!!!
و بدوري أصرخ و تصرخ معي بندقيتي في وجه أدعياء
المقاومة إلى متى ستظل معتقلة ؟!!! هل حتى يعتليها الصدأ ؟ أم سوق النخاسة
في انتظار مزادها القادم !!!