طبع في ذاكرتي بكل معالمه وتفاصيله , وكأنه شريط من الفيديو, ذلك على الرغم من صغر سني في هذه المرحلة .
في إحدى قرى محافظة الكفرة التي تقع في قلب الصحراء الليبية والتي كانت تقطنها عائلات فلسطينية نازحة, تحديدا في قرية التشادية ,
كان يوماً مغبراً عاصفاً , كنت ألهو وألعب أمام حديقة منزلنا أنا وصديقتي العراقية الأصل وهي العائلة العراقية الوحيدة التي كانت تعيش بين الفلسطينيين .
كنا نلهو بين أشجار الكينا والزهور التي تميل بكل الاتجاهات , وتنشر عطرها في كل مكان , نصطاد الفراشات , كان الرمل الأصفر
-رمل الواحات-
يلسع وجوهنا وأصبح يزداد مع الوقت فالرياح القوية تدفعه في كل مكان , لم نستطع أن نكمل لعبنا مع الفراش في ذلك اليوم , وعدنا إلى منازلنا فسمعت أبي يقول لأمي وهو يحضر نفسه ليذهب إلى عمله فقد كان الضابط المناوب في ذلك اليوم : ' أبو عمار الآن في السودان ذهب ليقابل البشير, وسوف يمر بليبيا في محافظة الكفرة ليتزود بالوقود, ويطمئن على جاليته الفلسطينية هنا'.
فرحت كثيرا لشدة حبي لأبي عمار فنحن في غربتنا كنا أول ما ننشأ عليه هو حب الوطن , ثم حب أبو عمار.
أصبحت أقفز من شدة الفرح و شعرت وكأنني فراشة تريد التحليق , فأخذت أتخيل كيف سألقى هذا الرجل الذي طالما شاهدناه على التلفاز .
بدأت أشعة الشمس القوية والمختبئة وراء الرياح والعواصف , وبعض الغيوم المتفرقة هنا وهناك بالتراجع و خفت ضوءها فيما انعكس شعاع الشمس الأحمر على السماء ليودعها قبل أن يسدل بثوبه الأسود ليعلن عن ليلة جديدة .
جاءت سيارة العمل لتقل أبي إلى عمله كانت الساعة الخامسة مساء , وبعدها بساعة بدأت وكالات الأنباء تتناقل خبر فقدان طيارة أبو عمار , وما إن تأكد الخبر حتى خرجت الناس من بيوتها فلم تمنعهم الأحوال الجوية السيئة من الخروج , وتجمعت النساء الباكيات في حديقة منزلنا , حيث كانت الدموع الحارقة تنهمر من عيونهن وقد رأيت وجوههن كما لم أراها من قبل فقد ارتسم عليها الخوف , وانتابني شعور بالهلع والدهشة, وصمت لبرهة لأفهم ما يجري من حولي , وببراءة الأطفال سالت أمي ماذا حدث ؟ لماذا تأخر أبو عمار ؟ فأجابتني إحدى النساء : ' أبو عمار يا خالتو رئيسنا رئيس فلسطين- وكانت تبكي بحرقة- فقد في الصحراء وهم يبحثون عنه الآن ' حزنت كثيرا لأنني كنت اعلم ماذا يعني أبو عمار بالنسبة لنا .
كانت تمر الساعة تلو الأخرى, والبحث لا يزال مستمراً , حالة استنفار داخل الشرطة الليبية وداخل منظمة التحرير في كل مكان , وبالذات الذين يقطنون في تلك المنطقة , والأحوال الجوية السيئة جعلت من عمليات البحث صعبة للغاية , شعرنا بأن عقارب الساعة في تلك الليلة قد توقفت , فقد كانت أطول ليلة بالنسبة لنا كل ساعة تمر كأنها سنة من الانتظار والترقب والخوف من سماع خبر محزن .
مرت نصف ليلة ولا أمل يلوح في الأفق إلى أن قررت القيادة الفلسطينية في ليبيا أن تبحث بنفسها عن أبي عمار فأخذت الدليل ويسمى محمد الريفي , وذهبت لتبحث عنه في الصحراء وكان مع الدليل العميد خالد سلطان.
وكان أبي يجلس في مكتبه على جهاز الاستقبال اللاسلكي ينتظر أي إشارة , مرت الساعة الثالثة صباحا ولا إشارة ولا يحزنون , كما أن جهاز اللاسلكي والاستقبال والإرسال ضعيف بسبب العواصف والرياح الرملية العنيفة فقد كانت بمثابة حاجز يحول دون التواصل بينهما .
وبينما كان أبي يجلس وراء جهاز الاستقبال , سمع صوت أحد الشباب الذي يحمل جهاز الإرسال اللاسلكي ولم يفهم أبي أي شيء بسبب ضعف الصوت, فقال له: ' إن كنت تسمعني وكان أبي عمار على قيد الحياة ووجدتم الطائرة أرسل إلي صافرة وأنا سأتصرف , وبالفعل أرسل صافرة طويلة فقام أبي بسرعة ودون تواني بتبليغ القيادة الفلسطينية في تونس ليتصرفوا , ومن ثم أرسلوا قافلة من السيارات إلى الصحراء لتأتي به بعد أن حددوا مكانه بالضبط فقد وجدوا طائرة أبو عمار محطمة في الصحراء , وعرفنا بعدها أن ثلاثة من الطاقم العامل في الطائرة قد ضحوا بأنفسهم لينقذوا أبو عمار.
فعندما علموا انه لا مفر من سقوط الطائرة قام احدهم وقال لأبى عمار ارجع أنت ومرافقيك للوراء وقد أحاطوه بكل وسائل الحماية المتوفرة داخل الطائرة وقاموا بإسقاط الطائرة بشكل أمامي محاولين أن لا يصاب بأذى.
أما أهل القرية فلم يعرفوا بعد بمصير أبا عمار وهاهو الضوء بدأ يتسلل إلى النوافذ والشمس بدأت ترمي بأشاعتها الخجولة في كل مكان , والعواصف قد خفت حدتها ليحل مكانها هواء الصباح العليل ليمرجح أشجار الاكاسيا التي زرعها الفلسطينيين في قريتهم لترمي بزهورها الصفراء الجميلة التي تدعو إلى التفاؤل والأمل.
نهار جديد ولا خبر جديد , شبح الأفكار السيئة أخذ يسيطر على عقول أهل القرية , ونحن هنا في غربتنا لا نملك سوى مآزرة أنفسنا , فقد اخترقتنا سهام الغربة في تلك اللحظات كما لم تفعل من قبل , فأبا عمار بمثابة العقد الذي يجمع أبناء الشعب الفلسطيني , كنا قد اقتربنا من فقدان الأمل ولكن سرعان ما ظهرت سيارة يستقلها شباب يرتدون البزات العسكرية والحطات الفلسطينية, رافعين إشارات النصر ووجوههم مبتهجة .
عاد الأمل من جديد وما إن اقتربت هذه السيارة حتى سمعنا صوت التهليل , وفجأة تحول الخوف والانتظار إلى فرحة وسعادة غمرت المكان , فانطلقت زغاريد النساء مجلجة , وعرفنا حينها أن أبا عمار نقل إلى المشفى ليعالج , وقد أقيمت بعد أياماً احتفالات لتكريم كل من ساهم في البحث عن أبي عمار, وقد نال أبي إحدى شهادات التقدير وهي كانت ولا تزال أهم شهادة نالها طوال حياته.
لقد كان الطيار ومساعدة من جنسية رومانيه ضحوا بحياتهم من اجل ابقاء رمز القضية إيمانا منهم بعدالة قضيتنا..
رحم الله القائد المعلم ياسر عرفات
وعاشت فلسطين حرة عربية